المواجهة الأميركية ـ الإيرانية: أي ثمن سيدفعه لبنان؟

نبيل الخوري

السبت 2019/05/25
أي سيناريو ينتظره لبنان في ظل الأزمة الحادة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران؟ سؤال يفرض نفسه على الأجندة السياسية، لأن هذا البلد سيتأثر بنتائج الأزمة، أياً يكن المسار الذي ستتخذه. لن يسلم لبنان من التداعيات، سواء اندلعت حرب مباشرة أو حتى عمليات عسكرية محدودة، أو في حال اقتصر الأمر على استمرار التحدي بينهما، وما يتخلله من استمرار للتصعيد السياسي والدبلوماسي الأميركي وللعقوبات الاقتصادية المشددة ضد إيران، مقابل استخدام الأخيرة لما تمتلكه من أوراق قوة، تحديداً ورقة تخصيب اليورانيوم بدرجات تفوق ما يسمح به الاتفاق النووي، وورقة الحلفاء المحليين في دول الشرق الأوسط. وبطبيعة الحال، سيكون لأي تسوية يبرمها الطرفان وقعاً على لبنان.

سيناريو الحرب المباشرة
إذا تحوّلت الأزمة إلى حرب أميركية ـ إيرانية مباشرة، ستكون مرتفعة الحدّة ومدمرة ومكلفة. وعند انطلاق الشرارة الأولى، قد ينحصر نطاقها الجغرافي في إيران ومنطقة الخليج. لكن ما الذي يضمن عدم توسع نطاقها لتشمل مناطق أخرى في الإقليم، لا سيما لبنان، حيث يتمتع حزب الله، حليف إيران، بقوة لا يستهان بها؟ وفي حال فضلت طهران عدم إشراك الحزب في حربٍ كهذه، من يضمن أن تحيّد واشنطن الجبهة اللبنانية؟ قبل التكهن بالإجابة، لا بد من العودة إلى التاريخ، لا سيما إلى عام 1941. فقبل مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، كانت الدبلوماسية مستنفرة ضد محاولات ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية الوصول إلى الشرق الأوسط للسيطرة عليه. و"في أيار 1941، زار القنصل العام الأميركي في بيروت، كورنيليوس فان إنغيرت، بكركي وأبلغ البطريرك أنطوان بطرس العريضة، بأن واشنطن قلقة من تعاون حكومة فيشي الفرنسية مع هتلر، ومن التسهيلات التي يقدمها الفرنسيون في لبنان وسوريا للقوات الألمانية والإيطالية، التي كانت تستخدم مطارات عسكرية لدعم تمرد ضد البريطانيين في العراق آنذاك. تعلق الأمر حينها برسالة مفادها أن واشنطن تدعم عملية الإعداد لمعركة خاضتها القوات البريطانية وقوات فرنسا الحرة ضد قوات فرنسا-فيشي في لبنان وسوريا، وانتهت بانتصار الطرف الأول"، وفق ما ورد في رسالة ماجستير في التاريخ للمؤلفة فاليري إيلين أزهري، في معهد العلوم السياسية في باريس عام 2003.

التذكير بهذه الواقعة، يفيد للقول إنه في حال وقعت حرب كبرى وحاسمة بين أميركا وإيران، فمن الصعب تصور أن واشنطن سترضى بتحييد لبنان، على الرغم من أن المؤشرات الصادرة عن الطرفين المعنيَيْن تعكس عدم رغبة أي منهما بمواجهة مفتوحة ومباشرة: عدم توجيه اتهام رسمي أميركي لإيران بشأن الاعتداء الذي استهدف أربع سفن تجارية إماراتية وسعودية (ونروجية) قبل نحو أسبوعين، يعني في الدبلوماسية، أن واشنطن تتريّث وتفضّل عدم صب الزيت على النار وتجنّب خروج الوضع عن السيطرة في الوقت الراهن.كما أن مساعي التهدئة أو محاولات بعض الدول لإطلاق وساطة، من شأنها تأخير خيار الحرب، إنْ لم تنجح في استبعادها نهائياً على قاعدة حل يرضي الطرفين.

فاتورة المواجهة المحدودة
في المقابل، ثمة مؤشرات تفيد بأن السيناريو المحتمل يتعلق بمواجهات محدودة أو غير مباشرة، قد لا يريدها الإيرانيون، لكن قد تنوي الولايات المتحدة، بالتنسيق مع حلفائها، استدراجهم إليها من خلال لعبة الفعل ورد الفعل.

فإدارة الرئيس دونالد ترامب، لجأت إلى خيار التصعيد التدريجي ضد إيران وأقدمت على خطوة تصعيدية تلو الأخرى، بدءاً من الانسحاب من الاتفاق النووي قبل عام، مروراً بعودة العقوبات مع استثناءات، وصولاً إلى إلغاء الاستثناءات أخيراً. ثم بدأ الحديث عن عزم طهران الرد على هذا التصعيد من خلال التخلّي عن الاتفاق النووي. كما جرى تسريب شائعات مفادها أن إيران تنوي الرد ميدانياً في العراق، من خلال استهداف المصالح أو القوات الأميركية. فأرسل الأميركيون تعزيزات عسكرية إلى منطقة الخليج، قبل أن يعلنوا منذ أيام أن هذه التعبئة حققت الغاية منها، أي "ردع إيران"، بعد تحذيرها من مغبة القيام بخطوة عدائية ضد المصالح الأميركية.

استجابة طهران، ولو بشكل ضمني لهذا التحذير، لن تعني أنها ستتخلى عن نيّتها إعادة تنشيط برنامجها النووي بعيداً عن قيود اتفاق عام 2015، الذي انسحبت منه واشنطن. ومن المرتقب، حسب الموقف الرسمي الإيراني، أن تبدأ عمليات تخصيب اليورانيوم بمعدلات غير مسموح بها وفق هذا الاتفاق، في غضون شهرين، إذا أحجم الأوروبيون عن تلبية شروط طهران المتمثلة في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية. من شأن خطوة كهذه أن تفتح الباب أمام رد فعل أميركي جديد. فتُصدِر واشنطن الأوامر لقواتها المتأهبة في الخليج لتنفيذ خطة (قيد الإعداد) لتوجيه ضربة محدودة لمنشآت نووية إيرانية، أو تُعطي الضوء الأخضر للإسرائيليين لتوجيه ضربة محدودة ضد تلك المنشآت، فيتم في الحالتين استدراج طهران إلى الرد، مع رمي الكرة في ملعبها في ما يتعلق بحصر المواجهة أو بتحويلها إلى حرب مفتوحة ومباشرة مع الأميركيين. والحال أن لبنان سيكون مرشحاً لدفع فاتورة التصعيد العسكري المحتمل.

من المواجهة إلى التفاوض؟
في لحظة الأزمات الدولية التي تضع صناع القرار في وضعية تجعلهم يتصرفون وكأنهم على وشك الدخول في مواجهة مسلحة، يُفترض أن يتبادر إلى أذهانهم أحد تعاليم الجنرال والمخطط الاستراتيجي العسكري الصيني، سون تزو (Sun Tzu 496-544 قبل الميلاد) عن أهمية كسب الحرب من دون قتال. أي أن يتم إخضاع الخصم من دون استخدام القوة العسكرية، والحصول على المكاسب المبتغاة، من دون دفع الأثمان التي تترتب عن الحرب. لعل هذا ما سيسعى إليه قادة كل من الولايات المتحدة وإيران. فتقودهما حسابات الربح والخسارة إلى احتواء التصعيد ومنع تحوّله نحو أي شكل من أشكال الصدام المسلح. هذا يعني أن تخلّي إيران عن الاتفاق النووي لن يُقابَل بأي رد عسكري. لكن سياسة ليّ الذراع التي تعتمدها واشنطن ضد طهران، سترد عليها الأخيرة من خلال إعطائها مزيداً من الزخم للتحدي الذي يدور أساساً بينهما، مستفيدةً من نفوذها الإقليمي، لا سيما في العراق واليمن وسوريا ولبنان. قوة إيران ستترجم في قدرتها على تعطيل مسار سياسي هنا وتسوية هناك.

لبنانياً، ثمة استحقاقات عديدة يمكن لإيران أن تحوّلها إلى مناسبات لاستعراض القوة، بدءاً بملفي "سيدر" وترسيم الحدود والنفط، مروراً بملف الانتخابات الرئاسية المقبلة، وصولاً إلى ملف الاستراتيجية الدفاعية وسلاح حزب الله. يتعلق الأمر إذاً بمسائل تهمّ الأميركيين. ستذهب بالتالي إيران إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة، بعد حين، وفي يدها أوراق قوة تعزز وضعيتها التفاوضية، على الرغم من ضعفها الناتج عن الاختناق الاقتصادي والمالي الذي تراهن عليه واشنطن لتركيعها. في ظل معطيات كهذه، سيقدّم الطرفان تنازلات متبادلة في حال كانا يأملان بالوصول إلى تسوية نهائية وشاملة تتعلق بكل الملفات الخلافية، ومن ضمنها الملف اللبناني.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024