نهاية لبنان.. أو بدايته

مروان حرب

الثلاثاء 2020/05/26

بيان الأشياء بذواتها وإن لن تَبُن بلغاتها، أهم وجوه البيان الأربعة التي قسمها ابن وهب في كتابه "البرهان في وجوه البيان"، أهم كتب البلاغة في القرن العاشر. فيشير ابن وهب إلى الصّمت النّاطق للدلالة من قوتها الطبيعية. والمدلولات النّاطقة بذواتها التي كشفتها سياقات الأزمة ثبتت أن الصّيغة التي مثّلها لبنان لم تعد قابلة للحياة. إن مفردات وشعارات الخطاب السياسي اللبناني "الرسمي" شكلت معتقدات تخون بدلالتها الواقع. إذ بنت بلدًا متخيلًا سحريًا وعجائبيًا. فتجد اللبناني أمام انهيار الأوهام في غربة مع بلد لم يعد يتعرف عليه، يشكّك فيما يتصفّحه أو يسمعه، لا يطمئن إلى ما يُنشر أو يُصرح به أو يعلن، يتبصر بما يدور حوله، فيجد نفسه عاجزاً.

بما أن المشكلة تأتي دائماً من الحلّ السّابق، فالخروج الفعلي من الأزمة التي تربك سلطةً تائهةً ترتجل خططاً وإنجازات، يستوجب إعادة النظر بالأفكار والاعتقادات التي أنتجت الأزمة، وعدم تقديس أي فكرة. تقديس الفكرة، ومنع مناقشتها، أو تخوين من يعاكسها، دليل على عدم فعاليتها وعلى هشاشه مرتكزاتها الواقعية.

الأزمة مركبة بالفعل، لها أكثر من وجه، وتختلط فيها أهداف متنافرة وشعارات متضاربة، ويتدخل فيها أطراف يستعسر حصرهم، وتعمل على التأثير عليها أكثر من جهة، مما يجعلها عصية على الفهم، لكن لهذه الأزمة مؤشراتها ومدلولاتها الناطقة بصمت:

أولاً: فشل النظام الاقتصادي. إذا كان النظام الاقتصادي الليبرالي خياراً صائباً تاريخيًا، فإنه أيضاً علّة أساسية. في النظام الاقتصادي الليبرالي، يتمتع العرض والطلب بالحد الأقصى من الحرية، وهذا يقود إلى تأرجح الأسعار، غير المتوقع أحياناً، لكونه مرتبط بالتغيّرات في السوق العالمية. إن حرية الاستيراد والتصدير كاملة تقريباً، الميزان التجاري يسجل عجزاً متصاعداً.. ناهيك عن أن النظام الليبرالي الاقتصادي يعزز الاحتكارات، ولا يكون منتجاً للإنماء في ظل مؤسسات سياسية متخلفة، وارتكاز التنمية على العاصمة وإهمال الأطراف.

ثانياً: نموذج الدولة المقاومة يؤدي إلى مقاومة الدولة. تعايش الدّولة مع حزب طائفي مُسلّح خارج السّلاح الشّرعي، في ظل نظام طائفي، يؤدي إلى اضمحلال الدّولة. هكذا يجد حزب الله نفسه مدافعاً عن نظام سياسي فاشل وفاسد، طالما أن سياسة الدولة تتماهى مع خياراته الأيديولوجية، ما أنتج مضاعفات اقتصادية ومالية ورّطت شعبًا بكامله.

ثالثاً: لن يأتي المُخلِّص. المراهنة على "القائد المنقذ" مهما كان قويّاً، أنتجت الخيبات والإخفاقات المتتالية. لا تغيير فعلي إلّا بالمراهنة على المؤسّسات الدّستورية والسّياسيّة، الّتي وحدها تحافظ على كيان أيّ دولة، وتحصنّها أمام التّغييرات والتّحولات والمغامرات السّياسيّة والأطماع الشخصية.

رابعاً: لبنان لم يكن كياناً واحداً. الاعتقاد بأنّنا شعب واحد ووطن واحد ولنا هوية واحدة، مفاده أنّ لبنان الذي نريد توحيده كان في الأساس كياناً واحداً، وما يظهر من اختلاف وتعدّد فهو شيء مصطنع زائف، ينبغي إزالته لتحقيق الوحدة الضّائعة. هذا ما أدى على مر تاريخ لبنان إلى محاولة الطائفة المنتصرة السيطرة على الطوائف الأخرى، من خلال فرض وحدة مصطنعة حول خياراتها في ظل الحجة لمن غلب. المنشود هو تبديل المنهج بحيث نسير من الاختلاف إلى الوحدة، لا العكس.

ليست المسألة مسألة تدابير اقتصادية ومالية من هنا ومن هناك، إنها مسألة اعتقادات، وأيديولوجيات كشفت التجارب بأنها ليست سوى شعارات. الشّعارات تشغلنا أبداً عمّا ينبغي التفكير به، وتفصلنا عمّا يجدر بنا درايته. فهي تحدثنا عن بلد أسطوري لكي تنسينا مدلولات أزمةٍ أضحت واقعنا اليومي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024