باسيل افتتاحاً واختتاماً: الزجليات الخطرة

المدن - لبنان

الإثنين 2019/09/23

اختتم وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل المؤتمر الرابع للطاقة الاغترابية في أميركا الشمالية، الذي انعقد على مدى يومين، وجمع ما يقارب ثمانمئة من المنتشرين اللبنانيين في الولايات المتحدة الأميركية، وكندا.

الكبير والصغير
كالعادة، تظهر كلمات رئيس التيار الوطني الحر وكأنها آتية من جعبة أيديولوجية بالية، أو كأنها مستلة من تهويمات سعيد عقل حين كان "منظّراً" لـ"الجبهة اللبنانية" في السنوات الأولى للحرب اللبنانية. لكن ما فارق أن باسيل يستعيدها في حاضر أطاح أصلاً تلك اللغة وهفّت معانيها، فلم تعد تصلح إلا كدليل على فواتها وعلى غلطها في الماضي. وما إصرار وزير خارجية لبنان على "إعادة تدويرها" واستعمالها إلا دليل على "ثقافته" الشخصية، المتوقفة هناك في زمن اختلط فيه الزجل بنظرية "العرق المتفوق".

لا يتورع هذا الرجل عن الشطح النرجسي أو استثمار "المخاوف" وتحويلها إلى غريزة بغض وإلى نعرة. يقول "إن التحدي الأكبر ليس في استخراج النفط ولا معالجة الأزمات المالية والاقتصادية، بل في الحفاظ على لبنان ليبقى كبيراً (...) الاقتصاد والنفايات والكهرباء تحديات يومية، لكن التحدي الأكبر هو أن يبقى لبنان كبيراً لأن هناك من يريده صغيراً وعلى قياسه". من يقصد بذلك؟ وليد جنبلاط أم نبيه بري؟ طالما أن السنّة (تخميناً) يفضلون لبنان أكبر مما هو كبير، وطالما أن حزب الله فتح الحدود وتمدد بلبنانه إلى البوكمال العراقية وأبعد.. أم أنه يقصد سمير جعجع، ليستأنف "حرب الإلغاء"؟

أرض الأحلام
وعلى هدي الفسطاطين (بن لادن)، يقرر باسيل أن "هناك فريقين يتنافسان في لبنان. الأول "بينق وبينعي وبيسب" بموضوع الكهرباء والنفايات والاقتصاد، مقابل فريق يزرع الأمل وبفكر بالحلول للنفايات والكهرباء". مع العلم أن الذي "ينق وينعي وبيسبّ" هو بأقدر تقدير حوالى 90 في المئة من الشعب اللبناني.

حتى وإن تجاوزنا هذا الكلام، لا يمكننا إلا التوقف عند ذروة نرجسيته التي تجعله يظن نفسه "المخلص"، وأن مصير لبنان بين يديه هو. فلا يتردد بالقول: "نجاحنا هو نجاح للجميع في الكهرباء والبيئة والاقتصاد والخارجية، وفشلنا هو فشل لنا جميعاً". بالطبع، خلال عشر سنوات قائداً لدفة الكهرباء والبيئة والاقتصاد والسياسة الخارجية، كان سجل الفشل والنجاح واضحاً.. وهو للأسف يسبب الكآبة في أحسن الأحوال.

من الجيد أنه ما زال مصراً على دعوته المغربين للتواصل مع وطنهم الأم: "تحافظون على انتمائكم للبنان بتسجيل ولاداتكم في السفارات وباستعادة جنسيتكم وبمشاركتكم في الانتخابات النيابية وباستهلاك المنتوجات اللبنانية والقيام باستثمارات في أرض لبنان (..) زوروا بلدكم وتعرفوا إلى بيئته ومعالمه السياحية والدينية، وتذوقوا من مائدته الغنية. وشاركوا كما شاركتم اليوم في اقتراح الحلول لمشاكله البيئية ومعالجة نفاياته وتعزيز صادراته ونقل الخبرات إليه وزيادة فرص العمل فيه". لكن كان من الأفضل أن يصارحهم ما الذي ينتظرهم حقاً من لحظة وصولهم إلى المطار وملاقاة مطمر كوستا برافا إلى لحظة مغادرتهم مسرعين هاربين إلى أميركا الشمالية التي وصفها عن حق: "أرض الأحلام، الأرض التي كانت وما زالت تستقبل كل طالب علم وكل صاحب طموح، هذه الأرض التي لم تكن تسأل يوما أحداً من أي لون هو أو من أي دين هو أو من أي وطن هو، استقبلت الجميع ومنحتهم الفرص للنجاح". 

العودة إلى الجينات
الزجلية "الأجمل" والأخطر تلك التي قالها في افتتاح المؤتمر قبل ثلاثة أيام: "النجاح هو صفة تترافق مع اللبناني، فهو صاحب جينات موروثة من أجداده الذين لم ينتظروا أبداً الصدفة أو الحظ ليطرق أبوابهم، بل كانوا قبل شروق الشمس وبعد صلاة صغيرة، يتسلقون الجبال ويحفرون الصخر ليجعلوا منه تربة خصبة، أو كانوا يبحرون في مركب من صنع أيديهم ليلجوا أعماق المحيطات الكبيرة لاكتشاف أراض جديدة واحتضان حضارات واعدة". الجينات الفينيقية إياها وخصالها التي لا يعرفها لا "العرق الآري" ولا "العرق السامي" هي عقيدة باسيل التي لا تتزحزح. يقين عنصري ملفوظ شعراً وأدباً، إلى حد الظن أن بناء الولايات المتحدة ما كان ممكناً لولا تلك الجينات اللبنانية: "هذا اللبناني حزم حقيبته وتحمل مخاطر السفر وصعوبة الغربة والبعد عن الأهل والأصدقاء، فوصل إلى شواطىء أميركا، وحل في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب وفي الوسط الأميركي، وساهم في صعود صناعة السيارات في ديترويت، وفي استخراج النفط في تكساس، وفي تطور الطب في كليفلند، وفي وصول ناسا ومعها الإنسانية الى القمر، وساهم في تكوين "السيليكون فالي" في كاليفورنيا، وفي ولادة الرابطة القلمية في بوسطن، فكان فكر جبران خليل جبران وشعر إيليا أبو ماضي، وأثبت أنه ناجح في كل مضمار، وأنه المبدع والمفكر والخلاق".

لم تخلُ كلماته من مسحة تواضع عابر، كأن يقول بشيء من الرجاء: "حافظوا على بلدكم الأول واحضنوه. لبنانكم وطن مبارك، ونحن نعيش فيه، ولو لم نكن كاملين، إنما نعيش تحت راية المثل العليا ولو لم تكن مكتملة". عن أي مثل عليا يتحدث حين ينتقل من مديح أميركا الشمالية "التي لم تكن تسأل يوما أحداً من أي لون هو أو من أي دين هو أو من أي وطن هو".. إلى مخاطبة أولئك المغتربين بنبرة فائحة بالعنصرية: "اللبنانوية lebanity وهي رابطة انتمائكم تتطلب المحافظة عليها، وهي تتطلب تصويتكم في الإنتخابات النيابية المقبلة واستعادتكم لجنسيتكم، لكي تحافظ هي على مفهومها الحضاري (..) هل أنتم واعون أن مئات الآلاف من الغرباء يكافحون لاكتساب ما ليس حقهم؟ يسعون للحصول على الجنسية اللبنانية ويستعملون اللبنانيين لذلك، وهم لن يحصلوا عليها لو مهما جاهدت وكالات دولية، ودفعت دول من ورائها بكل طاقاتها لتجعلنا نقبل بأن يحل اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون مكانكم، بدلاء عن أصحاب الحق الشرعي والطبيعي، ولن نقبل مهما زادت الضغوط ومهما اندس المندسون، عنكم بديلا، ولكن عليكم أن تقدموا وتستعملوا حقكم وتحصلوا الجنسية لكم ولأولادكم".

أعذب الشعر..
إذاً، يخاطب باسيل مثلاً عائلات من الجيل الرابع لمهاجرين لبنانيين أو من هم ذرية مهاجرين من القرن التاسع عشر مانحاً إياهم حق الجنسية (ولا مشكلة على كل حال)، لكنه يستكثر هذه الجنسية مثلاً على أبناء أم لبنانية ولدوا ويعيشون ويعملون وسيموتون في لبنان، لأنهم بصراحة غير مسيحيين. هنا المشكلة.    

واستكمالاً للخفة في إلقاء مسؤولية ما آل إليه حال لبنان على "الغرباء" (تحريضاً إضافياً)، يقول أن الأزمة السورية سببت للبنان "مليون ونصف مليون نازح على أراضيه وأكثر من ألف مخيم عشوائي بين بلداته، وأكثر من ثلاثين مليار دولار خسارة في اقتصاده، ناهيك عن التطرف والإرهاب..". ولا يسعنا الرد على هذا الكلام سوى إحالته لحليفه حزب الله وما فعله ويفعله بسوريا وبالسوريين.

لكن "الزجل"، على كل حال، شرطه ليس الدقة بل الهبورة والمبالغة. و"أعذب الشعر أكذبه".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024