بيروت "الغربية" المخيفة

يوسف بزي

الخميس 2021/11/11

ليس عندي أي تفسير واضح، لا سياسي ولا ثقافي ولا سوسيولوجي: كلما "دخلت" إلى بيروت الغربية أشعر بانقباض. فجأة أشعر برهاب الاحتشاد أو الـ"أغورا فوبيا". كثافة بشرية وعمرانية وآلية، خصوصاً تلك الآلاف من الدراجات النارية التي لا تتقيد بأي نظام.. إلى حد تخيلها أنها ستقفز أيضاً إلى الشرفات وفوق الشجر وستسير على الجدران، وإنها دوماً على وشك دهس أحد المارة.

الكثير من العنف في هذا الفضاء. عنف في صخب الأصوات، في نبرة اللغة ونوعية العبارات، وبتعبيرات الوجوه وحركات الأجسام. عنف في حركة المارة والسيارات والشاحنات والفانات. عنف في الكثافة الإسمنتية واحتشاد البنايات وانضغاط السكان. عنف في غلبة الذكورية على الشارع. ذكورية مستنفرة أكثر من أي وقت مضى، عدوانية وجاهزة للانقضاض والعراك.

الإحساس بالتهديد الدائم، بالخطر من حادثة، ومن اعتداء غير متوقع، ومن تورط بأي مشادة وحتى من الوقوع بأي افتراء أو تهجّم غير مبرر.. هو هاجسي كلما انتقلت أو مررت بهذا الجزء من بيروت. ولا أقصد أن "بيروت الغربية" تحتكر وحدها هذا المناخ المريع، لكنه فيها يتكثف ويتفاقم على نحو يعاكس حالها قبل سنوات قليلة. فالمدينة تخسر تمدّنها مع تضاؤل اللطف وتراجع منسوب التهذيب.

إنها تعود بسرعة إلى حقبة الثمانينات، حين هيمنت الأخلاق الميليشياوية وقوانينها على الحياة اليومية، التي اتسمت بالتوحش وغلبة السلاح وسياسات الكراهية، وغرائز "التصفية" الجسدية والمعنوية. إنها تعود إلى اجتماع الفوضى والقوة.

ولذا، كلما توجهت إليها اضطراراً أشعر كما كان يشعر مسيحي في الثمانينات يعبر من المتحف إلى البربير: الخوف والرهبة.

ما يجعل الأمر أسوأ هو زحف الرثاثة على الأمكنة، وتفاقم الهلهلة على المظهر العام، وتوسّع الاهتراء في البنى التحتية، والفقر الاقتصادي الذي يجعل العمران "يشيخ" ويتبشّع. ويتمادى الإهمال لكل شيء، من الرصيف إلى واجهة المحلات إلى قيافة الناس وملبسهم.

ثم هذا التجهم والقنوط، المعطوف على النقمة الدائمة والقرف والسخط والتوتر العصبي، وانشداد قوس الغضب إلى أقصاه مهيئاً للانفجار بأي لحظة، كحالة معممة على مجمل السكان، الذين يخسرون أسباب ذاك التهذيب المتلاشي يوماً بعد يوم. إنها حرب صامتة لا تطاق.

وما يجعل الأمر أشد قسوة ومتسارعاً في التدهور، هو فقدان الغرباء وهجرة الأجانب والسياح والزوار. فقدان معاشرة المختلف والتنوع والاختلاط، على نحو يُفقد الحياة المدينية الكثير من مدنيتها، ومن النظر في مرآة الغير، ومن لعبة تبادل الصور بين المقيم والعابر، بين الأنا والآخر.

أكثر من ذلك، ومقابل الانحطاط الطبقي وزحف الفقر، ثمة هجرة نوعية، هروب النخبة التي لديها فرصة أكبر بالاغتراب إلى مدن وبلاد أفضل. وهكذا، في زمن قياسي، تفرغ بيروت من أناس أسبغوا عليها ذاك الرقي ومنحوها صورتها كمكان يحلو العيش فيه.

في سنوات الحرب، كان "الإيمان بالغد" بكل سذاجته بالغ التأثير على صمود تلك المدينة، حين كان يعمد السكان إلى المسارعة لتبديل كل لوح زجاج مكسور بآخر جديد. بل وإلى المبادرة أيضاً في ابتكار المشاريع وحتى في الاستثمار، فالمشاريع العقارية مثلاً لم تتوقف يوماً. وإلى جانب هذا، كان ثمة مفارقة جنونية تتمثل بأنها سنوات ذهبية للنشاط والإنتاج الثقافي. ازدهار المعارض والمسارح والسينما والكتابة والصحافة وأنواع الفنون، إضافة إلى الحيوية الفكرية الاستثنائية التي طبعت تلك الحقبة. هذه المفارقة أضفت طابعاً أسطورياً على المدينة. كانت "المدنية" تحارب الميليشياوية كل دقيقة، وبالأخص ذاك الدور العنيد للنساء في المقاومة والحضور وفي توكيد حريتهن. وكان هذا ما صنع "معجزة" بيروت آنذاك.

أما اليوم، فقد تلاشى ذاك الإيمان. وكل واحد منا يخاف التجول في هذه المدينة العنيفة التي يطغى عليها اليأس وشعور الهزيمة واللاجدوى، ويغيب اللطف وتنحسر اللياقة. يكفي أن يغامر أحدنا في التجول بليلها المعتم والكئيب ليوقن أن البربرية اخترقت الأسوار.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024