رماد مخيم بحنين: اللاجئ المهجّر والمتوحّش البربري

نادر فوز

الأحد 2020/12/27
لم يبق في مخيّم بحنّين للاجئين السوريين سوى رؤوس بطاطا محروقة التهمتها نيران حاقدة أشعلها بربريون متوحّشون بالمخيّم. من اللاجئين من أضاع أوراقه الثبوتية، ومنهم من احترق جنى عمره (بالليرة اللبنانية وأقلّ من 3 آلاف دولار)، ومنهم من فقد سُتراً أو بطانية وحيدة. لم تكن يد عقاب إلهي ولا خطأ بشرياً وراء الحريق، إنما كائنات غير حسّاسة أضرمت النار عمداً في المخيّم، فحرقت ما يقارب مئة خيمة منصوبة في المكان، وهجّرت عشرات العائلات منها إلى عراء وصقيع مشبّعان رعباً وجحيماً.

صور المخيّم المحترق، مساءً، كأنها تعود إلى فجوة من فجوات براكين فيرنر هيرزوك (فيلم "إلى الجحيم"). أحمر وبرتقالي وأسود يتخالطون، من دون تعليق ولا مؤثرات ولا دوّي فقش لهيب. جحيم من صناعة بشرية لا دخل للطبيعة به، ولا الآلهة. وصور المخيّم المحترق، صباحاً، توثيق للمجزرة. تعيدنا قرابة العقدين والنصف إلى الوراء، إلى مجزرة قانا الأولى في أيام عدوان عناقيد الغضب عام 1996. جحيم، من صناعة بشرية، أيضاً لا دخل للطبيعة ولا الآلهة به.

لاجئون مهجّرون
اللاجئون، عنصر اجتماعي مستضَعف عموماً. حتى في هذا الشطر الاجتماعي، شرائح استضعاف أقصى وأدنى. شرائح استضعاف عمري بين أطفال ومراهقين وبالغين. شرائح جندرية بين نساء ورجال، قاصر ومتزوّجة وربّة عائلة. عاطل عن العمل ومنتج، وغيرها من الشرائح الأخرى منها المحظي أو المتروك في سبيل الحياة والقدر. لكن أقصى شرائح الاستضعاف التي يخرج بها علينا إحراق مخيّم بحنّين، اللاجئ المهجّر من خيمته. لا بل نساء وأطفال وعجزة لاجئون، تمّ تهجيرهم من خيمهم، ليصبحوا لاجئين نازحين من بؤرة مشتعلة. سبق وسُجّلت حوادث مماثلة لتهجير اللاجئين من مخيّماتها أو أماكن سكنهم، كما حصل في دير الأحمر سابقاً أو في بشرّي. إلا أنّ ذلك لم يكن بهذا القدر من الاستخفاف والحقد والكره والقذارة. لماذا؟

نعمة الذلّ
يقول منطق اللجوء، إنّ بشراً يهربون من مكان ما، في ظرف قهر وموت ودمار، إلى مكان أكثر أمناً للبقاء على قيد الحياة ولململة حيواتهم، بانتظار سِلم العودة إلى ديارهم أو فرصة للاستقرار. اللاجئون، ليسوا بدواً يعيشون حياتهم الطبيعية في الخيام كما يخيّل إلى البعض. ولا مسرورون بتقاضي 40 ألف ليرة لبنانية (أقل من 5 دولارات) شهرياً، إن تقاضوها. هربوا من جحيم سوريا، بنظامها وعسكرها المحلّي والأجنبي ومجموعاتها المسلّحة، لأنهم عاجزون عن الحياة فيما بينها. يعيشون في ذل الإعاشة وأكل البطاطا وسرقة خطّ كهربائي لم تؤمّنه الدولة لهم، وقضاء الحاجة في تنكة أو علبة متنقلّة أو في الخلاء. حتى نعمة الذلّ هذه، مهدّدون بها، مستكثرة عليهم، ممنّنون بها. لماذا؟

مخزون ينفد
ما بدأه نظام الأسد الأب والأبن، واستكملته ميليشياته الحليفة ومعارضوه على شاكلة داعش، يستمرّ بتنفيذه متوحّشون لبنانيون. الموت أو العيش في احتقار وتصغير وإخضاع وذمّ. على يد سفّاحين في سوريا أو متوحّشين في لبنان، لا يهم. ولا خيار ثالث. يسرقون من آلاف السوريين، مواطنين مفترضين في سوريا أو لاجئين في لبنان، ما تبقى فيهم من حسّ بشري. يخنقون ما تبقى لديهم من كرامة إنسانية. مخزون الصبر على الذلّ، والأمل بحياة أفضل، والإيمان بمتغيّر لا بد أن يأتي، والكذب على الذات في واقع الإهانة الفردية، والضغط على تحقير جماعي، نفد. إن لم ينفد، قارب أن ينفد. لماذا؟

إحراق مخيّم بحنّين جريمة شنيعة لم يعاقب عليها القانون بعد. شروع بالقتل الجماعي العمد، ينتظر من يحكم فيه. إلا أنه فعلياً يبسّط عين الواقع في حوضنا المتوسّطي المستمرّ في انزلاقه، دون فرملة، إلى التوحّش والبربرية والبدائية. لماذا؟ لأنّ في هذا الحوض المتوسّطي، وغيره، عودة إلى الغريزة في السياسة والأخلاق والدين والممارسة اليومية بشتّى مجالاتها. إنسان بدائي، يُمسك بآيباد ويركب طيّارة، وبات متمكناً من إشعال النار بإصبع واحد. فكيف لا يضرم النار في جماعة بأسرها؟ قد يعود حتى إلى جمع رؤوس وأعضاء ضحاياه من البشر في علّاقة مفاتيح.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024