الاعتراض الشعبي: "التأسيس" بعد الصراخ والعفوية

أحمد جابر

الخميس 2021/01/14

وصف الوضع اللبناني من موقع المعترضين على حيثياته، يتقاطع كله عند نقطة السلبيات على كل صعيد، ووصف حركة المعترضين تلتقي كلماته عند نقطة الحيرة والارتباط والعجز، لذلك فإن الاستزادة من أخذ العلم بالحال اللبنانية العامة، باتت من دون جدوى، وصار المطلوب الذهاب من التشخيص إلى تقديم بعض الاقتراحات الأولية، الفكرية والسياسية والعملية، التي قد تساعد على الخروج من مأزق النعت العام السلبي، إلى بداية سلوك إيجابي، صائب عموماً في نقاط بدئه، وواعد عموماً في مساره الوطني الهادف والطويل.

المهم والأهم
ولكي لا يكون السير على غير هدى، فإن الضرورة تقتضي ذكر الموضوعات الداهمة، وتبيان المخاطر المترتبة على تجاهلها، هذا مع عدم الاستغراق في حشد القضايا وقضايا القضايا، ذلك أن تحديد مساحة النقاش وضبط مساراته هو المسلك الأجدى في الظرف اللبناني الراهن.
ولأن لكل ظرف أولوياته، يجب التمييز بين المسائل وتوزيعها على بندي المهم والأهم، ولا يخفى أن التوزيع هذا يستند إلى تقدير الموقف الوطني السياسي العام، وإلى ما يرتبه من مهمات لا تحتمل التسويف أو التأجيل.
هذا النقاش الوطني الشامل ليس حقاً حصرياً لأحد، لذلك فإن الخوض فيه سيكون مفتوحاً للحالة الشعبية العامة، وستقدم عليه القوى السياسية المختلفة، وستسهم فيه كل التجمعات والجمعيات التي تتخذ لذواتها صفات مدنية أو ديموقراطية، هذا ناهيك عن الكتل الإفرادية "الهائمة" خارج كل الأطر التنظيمية الحزبية، أو الأطر الانتظامية الأخرى. هذا النقاش المفتوح، نقاش سجالي من منطلقه إلى بدء تحركه، وسيكون من المبكر القول حتى نهاياته، لأن الأساسي الآن النجاح في خطوة البداية المحفوفة بالمخاطر والمصاعب وممارسات العرقلة، من قبل المتضررين ومن جانب الرافضين، ومن جهة المناوئين الحاكمين والمتحكمين برقاب البنية اللبنانية وبرقاب أهلها. ومما لا يجب أن يكون موضع نسيان أو تجاهل، هو أن النقاش يجب أن يظل مرتبطاً بممارسة عملية مهما كانت محدودة ومحددة، ذلك أن الصمت الطويل عن الكلام الجاد، والإحجام عن إعلانه، أنتجا تردداً في صيغة تهيّب، ونجم عنهما لا مبالاة مطعَّمة بإحباط ظاهر، ومبطَّنة بخوف مضمر ربما، ومغلفة بشعور اللا جدوى في أكثر الأحيان.

الاعتراض المشترك
أشكال الحركة كثيرة ومتنوعة، والشارع اللبناني عرف ويعرف ألواناً منها، لكن الغائب الأساسي عن كل الحركات والتحركات، ما زال عامل الجمع السياسي الذي يعيد لملمة شتات التنظيم والانتظام، وهو أيضاً مستوى من مستويات المراكمة في إطار "مسؤول" محدد، يعتني بصياغة الخلاصات الإيجابية، ويرصد الجوانب السلبية، ويتولى الاتصال والإعلان والإعلام، والتنسيق... بين الجمع المؤتلف في الشارع، أي المجتمع في مكان جغرافي محدد، خلف مطالب اجتماعية مشتركة، لكنه، أي الجمع مختلف ومتباعد أحياناً، عندما تستعيد كل جهة ذاتها الخاصة، من إطار الجمع الذي يكون عاماً طوال مدة "الصراخ" والهتاف.

خلال الشهور الماضية، قدَّم الحراك المدني خلاصات عديدة، منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي. من بنود الإيجابية الأولى، أن الوضع اللبناني قدّم أدلة ملموسة على حيويته، وأنه غير منزوع العصب الاعتراضي، كما ذهب إلى الافتراض كثيرون، من حزبيين وغير حزبيين. ومما تجدر ملاحظته أن الحراك جمع الفئات العمرية كلها، لكن الطابع الشبابي كان هو الغالب، وهذا في حدِّ ذاته مؤشر على ارتباط الحركة بالمستقبل لجهة "شبابها"، وأن الحركة شاملة غير نخبوية، لجهة نزول "الجميع" مزودين بنفس الاعتراض المشترك.

ما بعد العفوية
لقد وضع النشاط الحراكي أوزاره لأسباب عديدة منها الذاتي ومنها الموضوعي، مما لا يشكل مادة لهذه المعالجة، لكن الخلاصة المطلوبة في هذا المجال، هي خلاصة رفض القطيعة التي أقامها "المدنيون" مع السياسية، ورفض التنديد "بالحزبية" كمفهوم وكأطر وكوسائل تنظيم، ورفض "تقديس" العفوية التي حمل لواءها أولاً، المتحدرون من أصول حزبية سابقة، يسارية، وغير يسارية، وأخيراً، رفض جعل الصوت الشعبي مطيةً لكل الذين خرسوا لحقبات طويلة، فالتحقوا وقبلوا بأن يكونوا بلا أصوات. هذه الإشارة الخلاصة، ترتبط ارتباطاً مباشراً بما يُدعى إليه من مباشرة عمل جديد، عمل تأسيسي بالتعريف، وصعب وطويل النفس بالتأكيد، لكنه يشكل نقطة الضوء الموضوعية الوحيدة في آخر نفق الانهيار الوطني العام.
قيل الكثير حول: لماذا لا نتحرك؟ مطلوب قول موجز حول: كيف نتحرك؟ وعسى ألا يطول سماع صوت الجواب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024