لن تخضع فرنسا لابتزاز أطراف السلطة في لبنان

نبيل الخوري

الثلاثاء 2019/11/12
يأتي الفرنسيون إلى لبنان هذه المرة لاستطلاع وضع وأزمة غير مسبوقين. في الماضي البعيد والقريب كانت باريس ترسل مبعوثيها للقيام بمهمات استطلاعية، أو بمساعي حميدة أو وساطات، لحلّ أزمات بين أطراف سياسية تمثل الطوائف، وتتصارع على الحصص والنفوذ في السلطة.

فشل فرنسا ونجاحها
كانت مهمة فرنسا تنجح حيناً، وتفشل أحياناً: فشل الوزير موريس كوف دو مورفيل، في تشرين الثاني 1975، في "فرملة" الحرب الأهلية. وعام 1981 فشل السفير لويس دولامار في تحفيز الحوار الوطني، وصولاً إلى تحقيق المصالحة الوطنية. وقد اغتيل السفير على يد من لم يكن لديه مصلحة في وقف الحرب اللبنانية. وبعد سني الحرب نجح الوزير هرفي دوشاريت في انتزاع "تفاهم نيسان" لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1996. وقبل عامين نجح الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً في حل أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري من السعودية...

ثمة اختلافات جوهرية كثيرة في طبيعة وأسباب وسياقات كل تلك الأزمات والحروب. لكن ثمة قاسماً مشتركاً واحداً بينها، يتعلق بوجود لاعبين معنيين بها. أي هناك أطراف كان بإمكان الوسيط الدبلوماسي الفرنسي أن يتحدث إليها، لمحاولة إبرام تسوية.

اختبار جديد للسياسيين
أما اليوم، فللمرة الأولى في تاريخ لبنان، يدور الصراع بين الشعب اللبناني العابر للطوائف والمناطق، وبين جميع أطراف السلطة. والخلافات القائمة بين الأطراف السياسية للخروج من الأزمة ليست سوى تخبّط هذه الأطراف، أو بالأحرى صراع جانبي وفوقي بينها. ومعالجة صراع الأطراف وحده، لن تقدم ولن تؤخر. وأي تسوية لا تراعي مطالب "انتفاضة 17 تشرين"، ستولد ميّتة. لذلك لا بد أنْ يدرك الفرنسيون أنّ المهمة التي يقوم بها موفد الرئيس إيمانويل ماكرون - مدير "دائرة شمال أفريقيا والشرق الأوسط" في وزارة الخارجية الفرنسية، السفير كريستوف فارنو، اعتباراً من يوم الثلاثاء - هي مهمة معقدة، وتضع الأطراف السياسيين أمام اختبار غير مسبوق.

حتى الآن، هناك تسريبات صحافية توحي بأن الدور الفرنسي يسعى إلى إعادة "تعويم" أطراف السلطة الذين فقدوا ثقة المواطنين اللبنانيين.

حيرة فرنسا
يمكن تفهّم المخاوف الفرنسية من احتمال قيام الأحزاب المحافظة، الرافضة والمعرقلة للتغيير، بزعزعة الاستقرار الأمني. ولا بد للانتفاضة من أن تتفهم الموقف الفرنسي المتمسك بضرورة الحوار مع حزب الله، فهذا أساساً هو موقف المنتفضين الذين حرصوا، منذ بداية انتفاضتهم، على عدم طرح موضوع سلاح الحزب في موضوعات الانتفاضة ومطاليبها. فالمنتفضون لم يستهدفوا الحزب، إلا بوصفه طرفاً سياسياً مشاركاً في سلطة سياسية فاسدة، ومدافعاً عنها، على ما يبدو من خلال أدائه. لكن الجمهور اللبناني المنتفض لن يستسيغ عودة التركيبة الحكومية السابقة، بعد إخضاعها لعملية تجميل، مهما كانت الذرائع. ولعل الدبلوماسية الفرنسية تدرك أن أي هفوة أو "دعسة ناقصة" تضعها في مرمى نيران المنتفضين. وهذا ما لا تريده باريس طبعاً. لذا على فرنسا إما أن تظهر صديقة المواطنين اللبنانيين الذين طفح كيلهم من منظومة الدولة الزبائنية الفاسدة، وإما أن تظهر أنها صديقة الحكّام. ولا يمكنها أن تكون صديقة الاثنين معاً.

وتتعلق المخاوف الفرنسية أيضاً باحتمال الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان. ولعل الدبلوماسية الفرنسية باشرت منذ مدّة، عملية استباقية لسيناريو كهذا. لم تفصح علناً بعد عن وصفاتها المقترحة لإدارة أزمة الانهيار المحتمل. وفي ما يتعلق بإدارة أزمة ما قبل الانهيار التي يعيشها لبنان منذ أشهر عديدة، تكتفي فرنسا حتى الآن بالإعلان عن استمرار تمسكها بـ"سيدر" لمساعدة لبنان مالياً واقتصادياً. لكن ثمة تكهنات عن احتمال الإتيان بودائع مصرفية خليجية بمليارات الدولارات، بمباركة فرنسية، لتهدئة الأسواق المالية اللبنانية نسبياً. والحال أن وصفات كهذه لن تساهم إلا في تأجيل موقت للانهيار، بينما مطلب المنتفضين هو محاسبة المسؤولين الذين أوصلوا البلاد إلى عتبة الإفلاس المالي، وتشكيل حكومة جديدة تضمن عدم استمرار منظومة الفساد ونهب الأموال العامة.

لا ضمان فرنسياً للسلطة
لذلك لن تكون مهمة المبعوث الدبلوماسي الفرنسي هذا الأسبوع في لبنان، سهلة. لن يكون بمقدوره التوّسط بين مواطنين ساخطين ومنتفضين - مطالبهم معروفة وليسوا بحاجة لأي قيادة تمثلهم - وبين سلطة سياسية تُحْسِن ابتزاز فرنسا وأوروبا بما يسمى "خطر الفوضى"، لتحصل منهما على دعم أو غطاء.

قد لا يساهم الدور الفرنسي في خلق دينامية تفاوضية، تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق كل ما يريده المنتفضون في لبنان. لكن في ظل دينامية الشارع المنتفض، لا تستطيع فرنسا تقديم أي ضمانة لأطراف السلطة في لبنان بشأن مصيرهم في السلطة. كل ما بوسع السفير فارنو طرحه على القوى الحاكمة هو حثّهم على تقديم تنازلات جديّة. يمكنه أن ينصحهم أيضاً بالكف عن التهويل بخطر "الحرب الأهلية"، لأن الأمر يتعلق بأكذوبة لا تنطلي على أحد.

ويبقى السؤال هو معرفة كيف سيدعو السفير فارنو أطراف السلطة إلى إطلاق سراح القضاء، لتركه يمارس مهامه في ملاحقة جميع الفاسدين وسارقي الأموال العامة والمتهربين من تسديد الضرائب. أي ترك القضاء يحاسبهم مع أزلامهم، من دون أن يتهموا السفير بانتهاك مبدأ "اللياقة" الدبلوماسية ؟!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024