ليس "أمر عمليات": البيان الأميركي يكبح عون ويربك الحريري

منير الربيع

الجمعة 2019/08/09

الموقف الأميركي الصادر عن السفارة الأميركية في بيروت، تعقيباً على أحداث الجبل، يحتاج إلى الكثير من الهدوء لقراءة مضمونه وأبعاده. مثّل البيان دعماً أميركياً واضحاً لوليد جنبلاط. ولكن من الضروري التبصر في ما إذا كان ذلك سينعكس إيجابياً أم سلبياً عليه وعلى البلاد.

خيبات وآمال
تجارب اللبنانيين وغير لبنانيين الكثيرة مع الولايات المتحدة الأميركية، أوصلتهم في نهاية مطافاتها إلى خيبات أمل، بسبب التخلي الأميركي عن دعمهم، وعقد اتفاقات مع خصومهم أو رعاة خصومهم. لذلك لا يمكن، بداية وإلى حدّ بعيد، الرهان على أي تحرك أميركي وقابليته للاستمرار، مقارنةً بحال إيران، مثلاً، مع حلفائها.

لكن هذا لا يلغي ضرورة الوقوف حيال البيان والنظر في أهميته، وخصوصاً أن ثمة تحركاً اعتراضياً بدأه وليد جنبلاط في لبنان، ليأتي الموقف الأميركي داعماً له في إطار لعبة التقاطعات التي يمكنه حياكة بعضها إلى البعض الآخر، ونسجها بغية تعزيز موقعه وموقفه ودوره. وبذلك يكون جنبلاط قد نجح في استدراج مواقف دولية حيال لبنان، بعد نجاحه في تحقيق فرز سياسي، نقله من موقع المدافع إلى موقع المهاجم، والقادر على فرض معادلات مغايرة. وهنا ستبرز براعة جنبلاط السياسية، التي تطبع مسيرته الطويلة. 

البيان وتبعاته
حتى الآن يمكن وضع البيان في سياق عادي مألوف. فلبنان لا يمثل أولوية في السياسة الأميركية الراهنة. لكن واشنطن مستمرة بوتيرة غير سريعة وطويلة المدى، في العقوبات على أطراف في لبنان، وبدعم الجيش اللبناني والمصارف اللبنانية. وهي لا تبدي أي إشارة للخروج عن هذا المسار.

التعطيل والاشتباك السياسي والجو غير التوافقي في لبنان، هي  التي إدت إلى إصدار البيان - الموقف، الذي لا يمكن اعتباره "أمر عمليات"، على ما يلهج بعض اللبنانيين. وهناك من يخشى من أن تكون مخاطره أكبر من منافعه. فبعض الأطراف اللبنانية سيستخدمه للإستشراس أكثر فأكثر ضد خصومه. وهو سيفيد حزب الله والرئيس ميشال عون، باعتبارهما أن ما جرى يؤكد مجدداً الاستهداف الدولي للعهد وللحزب. 

مركّبات كلامية
في المقابل لا تتجاوز حدود البيان - الموقف إيصال رسالة، طالما أن الحراك الاعتراضي على مسار العهد قائم، فيما حزب الله لا يريد قلب المعادلات، ويعلم أنه لم يعد  قادراً على استثناء جنبلاط واستبعاده من التركيبة. لأن هذا لا يعني الدخول في مشكلة مع الأميركيين أو غيرهم وحسب، بل الدخول في مشكلة داخلية أيضاً، هو في غنى عنها. صحيح أن حزب الله يريد لجنبلاط أن يبقى في المعادلة، ولكن بمزيد من الضعف ووالرضوخ للتسويات التي يرسمها هو، وليس كما يريدها جنبلاط. 

والأكيد أن لبنان لا يستطيع تحمّل أي خطوة أميركية قد تؤدي إلى انهياره. وهذا ما قد يعيد الأمور إلى التوازن في الأداء بعض الشيء. ذلك أن هناك من يعتبر واشنطن قدراً لبنانياً، وبالتالي تصير كل المركبات الكلامية والتصعيدية ضدها من الماضي، وإلا لكان لبنان شهد تحركات كبرى تطالب بإغلاق المصالح الأميركية فيه، ولجرى تطويق السفارة الأميركية، مثلاً. لكن الجميع يعلم أن حياة لبنان مرتبطة بواشنطن. 

قد يكون البيان مقدمة لتحركات أخرى. وقد يصح وصفه في أنه مثل وضع حجر في حائط يبنى على امتداد مرحلة مقبلة، لإعادة التوازن السياسي. وعندما يدعو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، المسؤولين في لبنان إلى الاستماع إلى مخاوف اللبنانيين، يعني أن الموقف الدولي آخذ في التوسع.

وتكشف معلومات ديبلوماسية أن عدداً من السفراء الأجانب، عبروا في مجالسهم الخاصة عن أن الحكومة اللبنانية غير قادرة على القيام بالمطلوب منها، وأبلغوا إداراتهم بعجز تلك الحكومة عن القيام بأي خطوة تحسّن الوضع اللبناني الراهن. وهذا يسلّط الضوء على التسوية الرئاسية والحكومية برمّتها.

الشراكة والعقوبات
وتفيد بعض المعيطات أن الأيام المقبلة تحمل تطورات مختلفة، وأن لبنان مقبل على مرحلة سيئة. ففي العراق مثلاً هناك شراكة أميركية - إيرانية في سائر المواقع والرئاسات العراقية. أما في لبنان فلا تجد واشنطن شريكاً لها. وحتى شركاؤها غير قادرين على تحقيق التوازن المطلوب. وما تريده واشنطن هو العودة إلى الشراكة مع إيران في لبنان، وليس استبعادها من المعادلة. وهذا المسار تريد واشنطن تكريسه استناداً إلى سياسة فرض العقوبات التي تتبعها. وفي هذا السياق تكشف مصادر متابعة، أن ثمة عقوبات جديدة ستصدر من واشنطن في الخريف المقبل على حلفاء لحزب الله، وبينهم شخصيات بارزة ممولة للتيار الوطني الحرّ، على سيبل المثال لا الحصر. وتفيد المعلومات الأميركية أن المسار الذي تتبعه طويل المدى. وواشنطن تفصل بين مشاكلها مع إيران ووضعها في لبنان الذي تضعه تحت تحت مراقبتها، وترسل إشارات تفيد بعدم سماحها بسيطرة حزب الله الكاملة على مفاصل الدولة اللبنانية.

السفيرة وباسيل
وتكشف مصادر متابعة أن البيان الأميركي، سبقته تحركات أميركية بارزة على الساحة اللبنانية، تجلّت يوم الأحد الفائت برسالة واضحة وجهتها السفيرة اليزابيت ريتشارد إلى الوزير جبران باسيل. فحوى الرسالة أن الأمور وصلت إلى مرحلة تتخطى الحدود، والسياسة المتبعة غير مقبولة، وفي حال استمر الوضع على هذه الوتيرة، فإن ذلك سيستدعي إجراءات مختلفة. وتكشف المعلومات أيضاً، أن السفير الأميركية، عبّرت قبل أيام، وفي إحدى الجلسات السياسية، عن امتعاضها من المسار السياسي القائم. وركّزت في كلامها على الطريقة السياسية التي يتبعها باسيل، وتوجهت إلى خصومه باللوم حول كيفية تركه يفعل ما يريد، من دون أي فعل مؤثر يضع حدّاً له. وشمل استياء ريتشارد سياسة رئيسي الجمهورية والحكومة غير المقبولة أميركياً، ولا بد من إعادة تصويبها وإخراجها من شرنقة المصالح التي تتحكم بها. 

تأتي هذه التحركات الأميركية على أبواب زيارة مرتقبة للرئيس سعد الحريري إلى واشنطن. صحيح أن أساس الزيارة إجراء مراجعة طبية وفحوصات روتينية بعد العملية التي أجراها الحريري قبل حوالى السنة. لكنه سيكون على مواعيد مهمة وأساسية مع مسؤولين أميركيين، على رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي تكشف المعلومات أن دوره كان أساسياً في إصدار بيان السفارة في بيروت.

الحريري والمساومة الخطرة
البيان الأميركي فعل فعله في لبنان. وهناك وجهتا نظر بتأويل تداعياته، منها ما يدخل في خانة الإيجابية التي تحدث عنها الحريري حول عقد جلسة للحكومة. وجهة النظر الأولى تقول أن الموقف الأميركي دفع عون وحزب الله، الحريصين على التسوية، إلى اظهار تراجع شكلي من خلال التخلي عن المجلس العدلي، لصالح تحقيق الأهداف نفسها ضمن المحكمة العسكرية، التي ستمثل فخاً كبيراً لوليد جنبلاط. أما وجهة النظر الثانية فتعتبر أن الحريري قد أبرم اتفاق ضمنياً مع عون والحزب بعقد الجلسة بحد أدنى من الخسائر، خصوصاً أن الموقف الاميركي قد يستخدم ضده وضد حكومته التي يعطلها خدمة لجنبلاط. وهذا معطوف على تخوف لدى الحريري من أن يكون هناك ما هو مخفي في الحسابات، فتتكرر معه تجربته في حكومته السابقة عند زيارته واشنطن وإسقاطه لحظة دخوله البيت الأبيض. لذلك هو مضطر لتسليفهم موقفاً ولو على حساب موقفه إلى جانب جنبلاط، للحفاظ على التسوية وتمرير زيارة أميركا على خير، خصوصاً انه قد يلتقي هناك جاريد كوشنير بعيداً من الإعلام. وهذا اللقاء سيكون ذات أهمية في ملفات تتعلق بالنفط وترسيم الحدود والطاقة ومساعدات أخرى.

على كل حال، وبما يتعلق برغبة الحريري بعقد جلسة وزارية، فقد تبددت بعد تشدد جنبلاط، رافضاً هكذا "تمريرة" لجلسة حكومية، وتهديده بالتصعيد السياسي حين قال مغرداً: "لم تعد القضية قضية مجلس وزراء ينعقد أم لا ينعقد. السؤال المطروح هل التحقيق سيجري مع الذين تسببوا بحادثة البساتين أم سيبقى هؤلاء يسرحون خارج المساءلة؟ لأن رئيس البلاد ومن خلفه يريد الانتقام. إذا كان الأمر هكذا، فنحن نملك الصبر والهدوء إلى يوم الدين. ولم نطلب ضمانة من أحد سوى القانون". تغريدة توحي أنه نقل المعركة إلى مكان آخر أبعد من فكرة عقد جلسة حكومية. ولذا، وتحسباً لحصول أي تصدع أو استقالات أو تحركات سياسية تؤجج التوتر في البلاد، اضطر الحريري إلى التريث، وتأجيل الدعوة إلى عقد هكذا جلسة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024