"النظام القديم" الذي يمدح الشعب اللبناني ويحتقره

وليد حسين

الجمعة 2019/11/01
ما قاله اللبنانيون ويقولونه منذ 17 تشرين الأول الجاري، في انتفاضتهم المفتوحة والزئبقية، التي اتخذت شكل جمعيات عمومية تلقائية مفتوحة، نقلتها الشاشات التلفزيونية من الشوارع والساحات، أجمع على سخطهم على حكامهم وغضبهم المتراكم منهم: "كلن، كلن حراميي". وهم تبرؤا من السلطة السياسية ولعنوا رموزها من الزعماء الذين صبوا عليهم الشتائم، مطالبين بمحاسبتهم. وعبروا في هذا كله عن معاناتهم المديدة طوال عقود.

كلام البيوت في الشارع
فحتى متوسطي الحال والدخل باتوا غير قادرين على تحمل الأعباء المعيشية في ظل الأزمة الاقتصادية، وضآلة فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة. فكيف بالفقراء أو محدودي الدخل؟ ولنا جميعاً في بيوتنا وأحيائنا ومناطقنا وبين أقاربنا وأصدقائنا وجيراننا أمثلة صارخة. فليس تفصيلاً أن تلجأ عائلات لبنانية كثيرة إلى تخفيض فاتورة تعليم أبنائها، سواء في نقلهم إلى التعليم الرسمي أو الخاص الأقل كلفة.

خرجت الجموع لتقول لكل من تربع في سدة السلطة: كفى نهباً وتدليساً علينا واستهتاراً بحياتنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا. وصدحت حناجرها: "كلن يعني كلن".

وهذا الشعار ليس بسيطاً أو تفصيلا في حياتنا اليومية. فحتى من يوالون أحزاب السلطة والمنتفعين من تقاسم مغنائم الدولة، كانوا لا يشكون في أحايثهم اليومية بفساد زعيمهم وسائر الزعماء. فيقولون في بيوتهم ولقاءاتهم أن الزعيم الفلاني فاسد، والآخر أقل فساداً، وهكذا دواليك.

نضوب الإعالة
حتى مناصرو حركة أمل وحزب الله الذين ينبرون للدفاع عن زعيميهما بشراسة واستقتال، وجموع مناصري تيار المستقبل الذين خرجوا منتفضين حرداً على استقالة زعيمهم، وما تبقى من مناصري التيار العوني الذين هبوا للدفاع عن عهدهم - حتى هؤلاء جميعاً كانوا ينتقدون فساد سياسيّيهم في بيوتهم وبين أصدقائهم ومعارفهم، وخصوصاً بعدما شحّت الموارد التي كانت تصلهم لقاء ولائهم لزعمائهم. وتصاعدت انتقاداتهم بعد نضوب ضرع البقرة الحلوب، جراء النهب والهدر، وتوقف الدائنين والمتبرعين الدوليين والخليجيين بالأموال والمساعدات، لإنقاذ الهيكل من السقوط على رؤوس سدنته. فجمهور أولئك الزعماء، كغيرهم من اللبنانيين طالتهم مقصلة الضرائب وارتفاع كلفة العيش والخدمات الأساسية. 

الاستثمار في الغضب
وشكّل خروج اللبنانيين على أجهزة زعمائهم وسلطاتها الفاسدة، وخروج مناصري الأحزاب على أحزابهم، زلزالاً أخاف المسؤولين في الدولة، فراحوا يلتقطون أنفاسهم لشد العصب الأهلي والطائفي، لإعادة الجموع إلى "حظائرها" وولاءاتها الطائفية. في البدء ألقى كل منهم التهم والمسؤوليات على الآخرين، في محاولة لتبرئة ساحاتهم من الفساد والأزمة الاقتصادية والمعيشية المستفحلة. ولأن هذه الأساليب صارت بائتة وباهتة وغير مجدية، لجأ الزعماء وبطاناتهم إلى ركوب موجة الشارع، للاستثمار في غضب الناس وسخطهم وتوجيه السهام إلى السلطة المجردة، التي بدت كائناً عجائبياً وغرائبياً فوق الجميع، كأن لا رموز لها ولا قيادات ولا أحزاب أمعنت في إذلال اللبنانيين منذ عقود.

هكذا عملت القوات اللبنانية على "التصويب" على أخصامها وحلفائها بعد خروجها من الحكومة. وهذا ما فعله رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط: دعم الشارع المنتفض، وكال له المديح، رغم بقاء وزرائه في الحكومة، خصوصاً بعدما أيقن أن شطراً من الجمهور الاشتراكي بدأ يخرج عن ولائه له. وبدوره خرج مؤسس التيار العوني مردداً ديباجية الإصلاح والتغيير، مبرئاً تياره من الفساد، ومحملاً وزره لشركائه في الحكم. أما عظائم الأمور فكانت مع أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي دافع بشراسة عن النظام والسلطة بذريعة الإصلاح الممكن بورقة قيل عنها أنها إصلاحية، وتشكل خشبة خلاص للبنانيين. ثم أوحى لرهط مدرب من مواليه وموالي حركة أمل، بتهديد المتظاهرين والإغارة عليهم وتأديبهم، بعدما رماهم بالعمالة والتخوين والتآمر.

كبح خطوة الخروج الأولى
كلهم أرادوا استغلال الشارع وراحوا يكيلون المدائح للشعب اللبناني الذي خرج إلى الشوارع. وتبرعوا بتصويب حراكه بوجه الفاسدين الحقيقيين ومكامن الفساد والهدر في الدولة. وهذا مكر وخداع في أبهى صوره، وأهدافه سياسية خبيثة. فمن ناحية يريدون تحصيل مكاسب سياسية في صراعاتهم على الحكم، وتدعيم مواقفهم في التفاوض في ما بينهم على المرحلة الانتقالية. ومن ناحية ثانية أرادوا إحداث بلبلة وتفتيت قدرة اللبنانيين على الاستمرار في انتفاضتهم. وفي النقطة الثانية تتفق القوى السياسية كلها ضمناً، رغم خلافاتها الشرسة. فمصلحتهم في حفاظهم على مكتسباتهم تقتضي تجميع قواهم والتعاون على مثال الأخوة الأعداء، لإعادة اللبنانيين إلى طوائفهم، وبردّهم إلى انقساماتهم التي خطوا خطوتهم الأولى في طريق الخروج عليها.

تيارات الحراك المتناقضة
وفي هذا السياق بدأت ترتسم معالم تحريك بعض المجموعات في الحراك نفسه، على أكثر من جبهة: بعضهم راح يطرح أسماء شخصيات للتوزير في حكومة تقنية. وبعضهم الآخر راح يصوّب على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وفؤاد السنيورة وميشال سليمان، بينما حصرت مجموعات أخرى التصويب على حزب الله وحسب.

وليس تفصيلاً أن حزباً يقدم نفسه مدافعاً شرس لمحاربة الفساد، وانتقد خطابات نصر الله، أخلى خيمته قبل ساعة من غزوة ساحة الشهداء. كما ليس تفصيلاً كيف توالت الدعوات للاعتصام أمام القصر الجمهوري، بعدما تلقى العهد دعماً معنويا من بكركي التي دعت الشعب لاحتضان الرئيس، بعد استقالة رئيس الحكومة. أو التداعي للاعتصام أمام قصر عين التينة الذي من شأنه شد عصب حركة أمل، بعدما جرى تحريك بعض الشارع السنّي لإشهار الولاء لزعيم تيار المستقبل.

لذا، بدأ ينحسر حراك الشارع العفوي وغير المنظم، لصالح المجموعات والناشطين المنظمين، لتعويم "النظام القديم". ومن الطبيعي أن تلجأ الأحزاب وبعض الأجهزة إلى دق الأسافين، تمهيدا للقضاء على الانتفاضة العفوية التلقائية. وتحريك بعض المجموعات بأجندات معينة يسهّل إحداث الشقاق والانقسامات بينها، وإرباك في الشارع، لكسر ثقة اللبنانيين بالتغيير.

ورغم أن الشارع مفتوح على الاحتمالات، خصوصاً أن المجموعات بتناقضاتها تجعل من الصعب على أي منها احتكار الشارع، لتعطي تحركها المنفرد وغير المنسق حيوية. وهذا ما يدفع الأحزاب إلى استثمار ما تمتلكه من موارد وإمكانات، لجعل الشارع مطية لتنفيذ أهدافها.

وبعد خروج جمهور تيار المستقبل إلى الشوارع، صار من السهل توقع خروج نصر الله شخصياً على رأس "متظاهرين" للإصلاح والتغيير.

فهل للمجتمع المدني قدرة تمنع بدء عودة اللبنانيون إلى نفق يصعب الخروج منه؟ ربما على الجميع العودة إلى وضوح شعار "كلن يعني كلن".  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024