بين الجيش والمصرف: عون وباسيل يستنزفان الحريري

منير الربيع

الأحد 2019/05/05

يوم أعلن رئيس الحكومة، سعد الحريري، عن تبنّيه ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية، برّر خطوته بثلاث نقاط أساسية. النقطة الأولى، الحفاظ على اتفاق الطائف. والثانية، منع الانهيار الاقتصادي في البلاد. والثالثة، إطلاق عجلة مؤسسات الدولة. طيلة أشهر التسوية الرئاسية، أثبتت المجريات عدم تحقق أي من هذه النقاط. ولو كان طرح الحريري هذا جدياً، وملتزماً به، لكن اقتضى منه الإقدام على قرارات مغايرة. فاتفاق الطائف أصبح من الماضي، بفعل الممارسة التي كرست أعرافاً وسلوكاً وتفاهمات تتجاوزه وتناقضه. أما الوضع الاقتصادي، فيدنو من الانفجار والتشظي، مع تزايد التخوف من انهيار مالي أو تمرد اجتماعي، عبر تحركات احتجاجية ومطلبية. أما اطلاق عجلة المؤسسات، فحتى الآن، وبعد أشهر على تأخير ولادة الحكومة، لا نشهد سوى التأخير بإجراء أي إصلاح إداري، يتلاءم مع مقررات مؤتمر سيدر.

العسكري والمصرفي
لم تقف الأمور عند حدّ عدم تحقيق العناوين التي أعلنها الحريري. بل هي بلغت مستوى أسوأ وأخطر بكثير، لا سيما مع جلسات مناقشة الموازنة المالية العامة، وما يترافق معها من تحركات في الشارع. لقد باتت البلاد في مكان آخر. وأفضل ما يعبّر عن هذا التحول، هو الانقسام في الشارع الاحتجاجي، بين العسكريين المتقاعدين، الرافضين المس برواتبهم ومخصصاتهم، بمواجهة موظفي مصرف لبنان الرافضين أيضاً لأي مسّ في  مخصصاتهم.

مشهد الانقسام هذا، ليس قطاعياً ولا مهنياً، بل هو سياسي بأبعاده وغاياته. فقد أصبحت الصورة منقسمة بين محورين، محور رئيس الجمهورية وإلى جانب القوى العسكرية، بمواجهة رئيس الحكومة وإلى جانبه المصارف وموظفي مصرف لبنان تحديداً. وإذا ما كانت تحركات العسكريين لا يمكن فصلها عن دعم أو غطاء معيّن من قبل قوى نافذة، خصوصاً من المؤسسة العسكرية، التي تدافع عن نفسها أيضاً، فكذلك الإضراب المفتوح الذي أعلنه موظفو مصرف لبنان، الذي ما كان ممكناً لولا تساهل أو غض طرف من قبل حاكم المصرف. وأسوأ ما في هذا النموذج، أن من يخوض هذه التحركات الاحتجاجية، هم أبناء طبقة اجتماعية مرفهة نسبياً، وتفوق رواتبها الحد الأدنى للأجور بأضعاف، ناهيك عن الامتيازات الكثيرة التي تتمتع بها. وربما من سيئات هذه التسوية الحريرية - العونية، أنها حصرت التحركات المطلبية بين هذه القوى، مستبعدة أي تحرّك أو فعالية للعمال الحقيقيين أو لذوي الدخل المحدود.

ثلاثة أركان 
لا ينطوي الصراع المتجلي في هذا الانقسام، على مطالب اجتماعية ومعيشية فقط. بل هو في أبعاده، يمثّل صراعاً على السلطة. وخصوصاً، أنه قد يفضي إلى المزيد من التطويق لرئيس الحكومة، سعد الحريري، الذي لا يجد في نفسه أي قدرة على المبادرة. ويحشر نفسه دوماً في الزاوية، كمثل حاله اليوم في دفاعه عن المصارف، الذي سيكلفه شعبياً وسياسياً. بينما من يناصر العسكر ومطالبهم، ويرفض المس برواتبهم فسيعزز وضعه شعبياً. وفي نهاية هذه المبارزة، فإن الانتصار سيسجّل لرئيس الجمهورية على حساب رئيس الحكومة، خصوصاً وأن السيد حسن نصرالله، في خطابه الأخير، طالب المصارف بـ"تحمل المسؤولية". ما يعني أن حزب الله ينحاز إلى الرئيس عون في هذه المبارزة.

يكتمل مسار تطويق الحريري سياسياً، وفق طموح عون لتثبيت عهده، عبر استعادة رمزية وعملية لصلاحيات الرئاسة الأولى ما قبل الطائف. طموح قائم على ثلاثة أركان: الإمساك بالأمن والعسكر، وبالقضاء، وبالقطاع المالي والاقتصادي. حتى الآن، نجح عون في السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية، بينما تستمر محاولات تطويع قوى الأمن الداخلي، أو اختراقها وتدجينها (وهنا، ليس تفصيلاً إدعاء مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس على اللواء عماد عثمان). أما القضاء، فقد أصبح بكامله بيد رئيس الجمهورية، سواء عبر وزير العدل أو عبر التعيينات القضائية التي حصلت سابقاً، والأخرى التي ستحصل لاحقاً. الآن تشكل الموازنة باباً جديداً لدخول رئيس الجمهورية على خطّ الإمساك بالاقتصاد والمال، وهو الذي أكد قبل فترة بأن لديه خطة اقتصادية جاهزة سيعرضها بعد إقرار الموازنة. وهذه الخطّة من شأنها أن تسحب من الحريري آخر عناصر سلطته في البنية اللبنانية.

وكما سيجرّد الحريري من مرتكزه الأساسي، وهو الاقتصاد، سيتلقى رسالة من خلال تحرّك العسكريين المتقاعدين في الشارع، وفحواها احتمال تجريده أيضاً من مصدر قوة يراهن عليه، هو علاقاته الدولية التي لا ينافسه أحد عليها. لكن حراك العسكريين ومخاصمة مؤسسة الجيش له على خلفية مالية، قد يؤديان إلى أن يكتسب الرئيس عون ذراعاً قوية في العلاقات الدولية، وخصوصاً مع أبرز عواصم القرار، ألا وهو الجيش، المؤسسة التي تهمّ تلك الدول.

مثال عمر كرامي
والخشية الأبرز من ذلك، هي أن يتم الاستثمار بهذه الاحتجاجات الشعبية، إلى حد إسقاط الحريري في لحظة مفاجئة في الشارع، على نحو لا يتحمل أي طرف سياسي مسؤولية إسقاطه، في مشهد يكرر تجربة الرئيس عمر كرامي في 16 أيار عام 1992. حدوث هذا السيناريو ليس سهلاً، لكنه قد يكون أحد الخيارات، في أي وقت يحتاج فيها خصوم الحريري إلى الإنقلاب عليه، وتأكيد السيطرة الكاملة على البلد، في لحظة إقليمية مفصلية مثلاً تتطلب ذلك. وهذا لا يمكن فصله عن كلام وزير الخارجية جبران باسيل، الذي اعتبر قبل يومين أن المشكلة مع من يعرقل المشاريع الاقتصادية والإنمائية لـ"التيار الوطني الحر"، هم القوى التي ترتهن للخارج. وكان يقصد الحريري تحديداً.

في العلاقة الجدلية بين الحريري وباسيل، والتي أفضت إلى تسويات متعددة، قدم بموجبها الحريري تنازلات كثيرة وقاسية، ثمة متغيرات عديدة، أبرزها أن باسيل يعزز أوراقه الشعبية والسلطوية، كما يعزز تحالفاته المحلية والخارجية، في حين أن الحريري يستنزف رصيده. وإذا ما كان باسيل يراهن في مرحلة معينة على دعم الحريري له، لتوفير غطاء إقليمي ودولي يؤمن له طريق رئاسة الجمهورية، فإن الحريري قابل لخسارة حتى هذه الورقة، في المستقبل، على نحو تنتفي الحاجة إليه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024