حسن فضل الله: ثقافة النقمة

يوسف بزي

الأحد 2019/03/03

قد يبدو وجهه ناعماً ما يوحي باللطف، فيما لغته الصحيحة تخلو من نتوءات الاستفزاز. حرصه على قَصة شعر كلاسيكية بلا "موضة"، لكن بلا إهمال، على عكس إخوانه في حزب الله حتى في قيافة ثيابه وفي مظهره الجسدي الأقل بدانة من معظمهم، تجعله يبدو فتياً وأصغر سناً، وهو ابن الثانية والخمسين عمراً.

وحسن فضل الله، سليل عائلة دينية من "السيّاد"، إبن عيناثا، القرية اللصيقة ببنت جبيل، وتتصل سيرته بسيرة أبناء جيل شيعي جنوبي، نزح أهلهم إلى جوار بيروت وضواحيها، في النبعة وبرج حمود وبرج البراجنة والشياح والغبيري.. وفضل الله من مواليد عام 1967 فكان عمره ثماني سنوات عندما تفتح وعيه الأول مع اندلاع الحرب، واختباره التهجير والقتال والانقسام الأهلي، ثم سرعان ما اختبر احتلالاً إسرائيلياً لقريته، فأقام على الحرب و"سياستها" وأحزابها وميليشياتها، وتدبير الدراسة على تفاوت فرص تحصيلها في تلك الضواحي ومدارسها المتواضعة.

والراجح أن فضل الله، المراهق والشاب، لم يشذ عن أقرانه من أبناء هذه النكبات المتلاحقة، لكن تربية أسرته المتدينة والمحافظة طبعاً وإرثاً، ستجعله من أوائل المنضمين إلى صفوف الحركة الطلابية (والمسلحة) الإسلامية الوليدة ما بين أواخر العام 1982 ومطالع العام 1983، عند لحظة الانسحاب الإسرائيلي من بيروت وضواحيها، وابتداء العمل المسلح "المقاوم"، وتشكيل الخلايا الأولى حول عدد من رجال الدين أو الكوادر العسكرية الخارجة من "حركة أمل" إلى كنف الحرس الثوري الإيراني مباشرة، أو إلى حضن "المرشد الروحي" العلامة محمد حسين فضل الله.

وخالف النائب فضل الله رفاقه، إذ لم تعرف له مشاركات عسكرية معلنة، طالما أنه انخرط باكراً في الحقل الإعلامي والتعبئة الطلابية وأنشطتها، فكان من مؤسسي إذاعة "النور" وما لبث أن كان في عداد مؤسسي قناة "المنار" التلفزيونية، عشية نهاية الحرب وابتداء عصر السلم الأهلي "المضطرب" حتى يومنا هذا، لتكون منبراً لخطاب المقاومة وصورتها. وهو كرّس لـ"شغفه" الإعلامي والصحافي طموحه فعمل أيضاً في نشرة "العهد" صحيفة الحزب الأساسية، وحصّل معرفة أكاديمية في جامعة القديس يوسف، ما يدل على تصميم شخصي في "الترقي" مكانة ووظيفة، وكافأه حزبه في عضوية المجلس السياسي مرتين  متتاليتين (1998-2004)، انتباهاً إلى شخصيته التي تجمع العناد والإيمان في سريرة واحدة.

و"التزام" فضل الله الحزبي والديني يتمسرح حتماً في حركاته وسكناته وتعابير وجهه، كما التزامه الأهل وصلات القرابة وعاداتها، يتمظهر في استئناسه لعيناثا ومناسباتها واجتماعاتها، فيغدو إبناً باراً وخلوقاً ولصيقاً بآداب الجماعة والعائلة.

وهذا النائب، الذي لا تحمل الذاكرة العامة عنه فكرة واضحة على عكس محمد رعد أو علي عمار مثلاً، أناط به حزب الله مهمة "حربية"، إذا صح التعبير، هي "مكافحة الفساد". لربما لأنه هكذا، على ما وصفناه، مغايراً لنواف الموسوي ولرعد ولعمار ولشيخ معمم كنعيم قاسم، أي صاحب الوجه اللطيف، وإن كانت تصريحاته المتفرقة لا تخلو من نبرة "حزباللهية" متأففة ومتكلفة، وعدوانية، متفذلكة دوماً.

وهو سرعان ما باشر حربه، فخلع ثوب النيابة، وأسقط لغته "الصحافية"، بل وتخلى عن أسلوبه الشخصي، متمثلاً صورة "المقاوم" أو نموذج "المسؤول" في الحزب الذي يدير قتالاً. فوسع فضل الله أن يبرهن لنفسه ولإخوانه وللأغيار، أنه ما زال مخلصاً لذاته الشابة المندفعة في الثمانينات إلى حزب الثورة الإسلامية (الخمينية) بإيمان حار وحماسة متوقدة، ليرث المستضعفون الأرض بعد إسقاط الطواغيت.

وسمة جيل فضل الله تحديداً، ذاك الألم من الحرب والاحتلال، ووراثة ذاكرة أهل التقشف والحرمان، واكتساب ثقافة النقمة (والحقد الفعّال) على أحوال النفس والعالم. فتتراكب كلها ضغينة مقيمة في الحياة والسياسة والثقافة، متقلبة على أوجاع وعي الظلم والتفاوت، التي لا يشفيها ولا يعالجها سوى الثأر. وتلك تجربة عاشتها شبيبة الفاشيات في أماكن وبلدان وأحزاب، لم تغادر النكبات ولا الفجائع، بل طلبتها وتغذت منها من دون إشباع.

والحال أن جذر "الخمينية" هو ذاك الاعتقاد الثابت بفساد العالم الدنيوي. اعتقاد يحيل أتباعها إلى حمل الاحتقار لمظاهر الدنيا "الفانية" والترفع عن أحوالها وفتنتها. وعليه تتأسس أخلاق محاربة الفساد بالمعنى الأيديولوجي للكلمة (وصولاً إلى منع الحفلات الموسيقية مثلاً)، وخاتمتها الفعلية هي الحرب على الدولة والمجتمع معاً.

ونائب "الأمة اللبنانية" حسن فضل الله يعتنق كل هذا، وينيط بنفسه مهمة تطهيرنا من مفاسد الدنيا كما من فساد متغلغل في جسم الدولة وإداراتها. لكنه يباشر مهمته بفؤاد السنيورة، أي من حيث توقف مسلسل الاغتيالات والقتل، ومن حيث توقفت غزوة 7 أيار 2008، ومن حيث توقفت الفتنة المذهبية، ومن حيث انسحب جلاوزة المخابرات السورية وضباطها، الذين لا يقاربهم فساد، حسب "سياسة" حزب الله ونوابه ووزرائه.

اختار فضل الله، أو مجلس شورته أو مكتبه السياسي أو أمينه العام، فؤاد السنيورة الذي، إن كان فاسداً، تحول إلى "بطل -ضحية" ما أن رفع فضل الله اصبعه متهماً. وهذا أقصر الطرق ليجهض حزب الله ما يقول أنه "محاربة فساد"، ويفتح الباب مجدداً لاستكمال ثأره وحقده بل وشغفه بالحرب الأهلية الباردة، التي فيها يزدهر ويتفوق ويديم سلطانه على يومياتنا "الفاسدة" التي يحتقرها منذ شبابه حسن فضل الله وإخوانه المقاومين، المتنعمين وحدهم بـ"المال الحلال" على ما يصفون المدد الذي يصلهم على غفلة من الدولة وجماركها وحساباتها وضرائبها وجباياتها.

الشر السياسي غالباً ما يتمنطق بالاستقامة والأخلاق. هذا درس الفاشية الأول.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024