التفسير النفسي - اللغوي لـ"جهنم" ميشال عون

محمد أبي سمرا

الخميس 2020/09/24
"طبعاً ع جهنم"، قال رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون بنبرة بديهية مختنقة، لا يَخفى غضبها الغريزي، بعدما قرأ على الصحافيين، بأنفاسه الكليلة، المتقطعة والمتلاشية، مطالعته عن العُقَد التي تعترض تأليف الحكومة، واقتراحاته لحلها.

غضب القائد المخلص
وجهنم التي أكد ميشال عون أن لبنان يتجه إليها، يرجِّحُ من خبروا طبعَه أنها خطرتْ في باله ولفظَها لسانه جزافاً، عشوائياً وآلياً. وهذا بعدما فاجأته اندفاعتها غير الإرادية، من هوة لغوية سحيقه في ذاكرته، رداً غريزياً، لفظياً وغاضباً، منه على صحافية تلفزيونية سألته عن مصير البلاد الراهنة: بعد تعثر تأليف الحكومة، وإصرار الثائي الشيعي على حيازته وزارة المالية، وتوجه مصرف لبنان المركزي إلى رفع دعمه المالي بالدولار عن المحروقات والأدوية والقمح، تلافياً لنفاد مدخراته المالية من العملة الصعبة.

ولما فوجئ الرئيس بسماعه هذه العقد والمصاعب كلها، عصف الغضب في صدره، لشعوره بأنه محاصر، وربما متهم، وعليه أن يجاوب في لغة منطقية، شارحاً معللاً معطيات ووقائع وضعية محددة. وهو يأنف هذا كله ويمقته، وغير متعوِّد عليه. لذا اختصر هذا كله بتلك الكلمة التي رماها كصفعة مفاجئة على وجوه مستمعيه: "طبعاً ع جهنم" رائحين. وربما كان عليه أن يضيف: أنا شو خصني، وشو فيني أعملكم؟! حلوا عني.   

ذلك أنه القائد المخلص، وصاحب صرخة تحرير لبنان من الاحتلال السوري، ومؤسس "الشيعة العونية" المسيحية السياسية التي ورثت غرضيات وشيع كثيرة سبقتها، منذ إطلاقه صرخة التحرير تلك في العام 1989. وهو من صرخ الصرخة البطولية الطالعة من مسرحية فخر الدين الرحبانية على الأرجح: "يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن ينال توقيعي". وهو العائد إلى لبنان لتخليصه من فساد طبقته السياسية واقتصاده الريعي التافه. والمسمّي عهده الرئاسي "العهد القوي". أما في المطالعة التي قرأها، قبل إتاحته للصحافيين أن يوجهوا إليه بعض الأسئلة، فقد تبرأ كعادته الدائمة من مسؤوليته عما حدث ويحدث في البلاد من كوارث متلاحقة، فنسبها كلها - كملاك أو كمسيح ليست مملكته على هذه الأرض - لشياطين وأبالسة يعيثون فيها الفساد والدمار، وأُرسل إليهم هادياً مخلصاً، فلم يرعووا ولم يهتدوا، وأقاموا على طبائعهم الشيطانية الفاسدة والمدمرة.

جنبلاط وبلاد المُناهبة
واشتعلت التعليقات على "جهنم" ميشال عون في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، مستهجنة مستغربة، ومستاءة شاجبة ومتهكمة، مبررة وشارحة قصد الرئيس. وهي كلها تقريباً ذهبت مذهباً سياسياً واقتصادياً استل مادته وحجته من وقائع الحياة اللبنانية ومعطياتها الراهنة.

ومنها تعليق الزعيم الدرزي وليد جنبلاط العائد من باريس مزوَّداً ببعض "المعلومات" عن مبادرتها اللبنانية المتعثرة، فقال إن عون لا يحق له التكلم على هذا النحو، ولا التنصل من المسؤولية عن الجهنم اللبنانية الموعودة. وعلّل جنبلاط وجهاً من وجوه عثرات لبنان المديدة، بضلوع إدارته ومؤسساته المالية بالتلاعب بالعملات وأسعار الفائدة منذ التسعينات، لجني أرباح طائلة، لم يبرئ منها الزعماء والقوى السياسية كلها، معترفاً كعادته في مثل هذه الأحوال بأنه واحد منهم، وليس بريئاً من تلك الأفعال: اعتياش الزعماء وجماعاتهم وميليشياتهم المنتصرة في الحرب المتقاعدة عن الحرب، على تناهب مالية الدولة ومقدراتها مع نظام الأسد وفي رعايته. لكن اعترافه هذه المرة خلا من قوله المعتاد: "كانت ساعة تخلٍ، وعفا الله عما مضى".

وهو في قرارة نفسه موقنٌ أن لا شيء ولا حساب ولا مسؤولية تترتب في لبنان على ما فعله ويفعله ويقوله أمثاله من الزعماء، في بلاد العصبيات والزعامات التي تعارفت وتشاركت على اعتماد الحرب والمناهبة شريعةً وتقليداً سياسيين في إدارة شؤونها كلها.

عون يوسف لبنان                             
أما أتباع "الشيعة العونية" ورهطها، فذهبوا مذهباً آخر في تفسيرهم قول رئيسهم إن لبنان مصيره جهنم: لقد وصّف الرئيس توصيفاً حيادياً المصير اللبناني الذي قاده إليه زعماؤه جميعاً، منذ التسعينات وحتى اليوم، بعدما طُرد عونهم ونبي شيعتهم ومخلصهم، عنوة من القصر الجمهوري في العام 1990. وعندما عاد النبي المخلص إلى لبنان في العام 2005، أعاد تنظيم شيعته وبعثها على مثال جديد: طَرد منها المناضلين الشبان طوال 15 سنة، واستبدلهم بوصوليين ومتسلقين إلى النيابة والوزارات، ووصل بهم إلى رئاسة الجمهورية في العام 2016.

لكن الزعماء الجشعون الفاسدون إياهم، منعوه من تخليص لبنان من تناهبهم وفسادهم. وها هو لبنان يقف اليوم على شفير هاوية جهنم التي يدفعه إليها الزعماء كلهم، بأفعالهم المعتادة، والموصوفة تلك.

أما هو، مؤسس الشيعة العونية، النبي المخلص، الرئيس القوي، فبريء من أفعال أولئك الزعماء كلهم، فرداً فرداً وجميعاً، "براءة الذئب من دم ابن يعقوب"، يوسف الذي رماه إخوته في الجب، وقالوا لأبيهم إن الذئب قد أكله. وهم فعلوا ذلك غيرةً من نبوة يوسف وجماله وحبّ أبيه (أي لبنان واللبنانيين جميعاً) له. والحق أن ميشال عون في نظر شيعته العونية ومخيلتها منذ العام 1989، ليس سوى يوسف النبي نفسه الذي تآمر ويتآمر عليه مذاك وحتى الساعة، إخوته الأعداء، الأبالسة والشياطين، والعالم كله من ورائهم، كي لا تتحقق نبوءته اللبنانية الخلاصية.

لذا وقف أخيراً، منهكاً متلاشي الأنفاس، لشدة ما طُعِن في ظهره وصدره، دفاعاً عن لبنان، وصداً للمؤامرات والمتآمرين عليه، أقله منذ مئة سنة، وحتى وقوفه أمام الصحافيين، نافضاً يده من مصير لبنان الجهنمي الذي دفعه إليه زعماؤه الأبالسة، نكاية بنبيّه أو يوسفه المخلص المغدور، ميشال عون.

وتكاثرت التفاسير والشروح لـ "جهنم" ميشال عون، فذهبت مذهباً إعلامياً يستعيد الكوارث اللبنانية ومآلها الجهنمي، سياسياً واقتصادياً ومالياً. لكن هذه التفاسير والشروح كلها لم تكن على الأرجح حاضرة في وعي ميشال عون ومقاصده، ولا هو فكّر فيها وعناها، عندما قال: "طبعا ع جهنم".

قداسة النبوّة ودنس الدنيا
وقد يكون أبلغ تفسير وأصدقه لقوله هذا، هو ذاك الذي ساقه كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي، متذكرين تطفلّهم على أمهاتهم لدى سؤالهن في طفولاتهم البعيدة، إلى أين هن ذاهبات؟ فتجاوبنهم الأمهات الغاضبات جواباً غرائزياً وكلامياً غاضباً: ع جهنم.

وجهنم ميشال عون التي تلفّظ بها، ليست سوى صنيعة غضبه وضيقه وبرمه من أن يُسأل ويجيب. ذلك أن النبي المخلّص لا يُسأل ولا يجيب، بل يبشّر، هكذا غريزياً وعفو الخاطر. وإذا ما ألحَّ عليه أحدٌ ما بسؤال يتطلب جواباً وضعياً وشرحاً وتعليلاً منطقياً، يأخذه غضبٌ نبوي أو إلهي، يطلع من الطبع والغريزة اللذين يُنزِلان النبي أو الإله من عليائه إلى سفاسف الحياة الدنيوية ولغتها ومنطقها الوضعي.

وسورات الغضب هذه لصيقة بمسيرة ميشال عون المخلص ولغته وفصامها بين النبوّة الخلاصية المتعالية، والحياة الدنيوية الوضعية والوضيعة. تلك التي يرغمه البشر الدنيويون على الغرق في شؤونها وشجونها وأردانها التي يُنزِلونه إليها من علياء نبوته وألوهته. ولذا يرميهم بغضبه الغريزي الذي تختلط فيه طهارة القداسة بدنس الدنيا.

والأرجح أنه منذ شبابه البعيد مقيمٌ على طبعه هذا. أقله منذ قلّده العماد فؤاد شهاب في نهاية خمسينات القرن الماضي، سيفَ تخرّجه من المدرسة الحربية، التي روى هو نفسه أنه كان موعوداً بها وبقيادة الجيش وعداً نبوياً منذ طفولته. وهناك روايات كثيرة رواها أقارب ومجايلون لميشال عون في شبابه، تقول إنه فور تخرُّجه من المدرسة الحربية، عاد إلى أهله في حارة حريك متقلداً سيف التخرج. فذهب إلى ملحمة والده، وطلب منه أن يقفل الملحمة ويقلع عن عمله لحاماً في الحارة، لأن عمله هذا لا يليق بوالد ضابطٍ تخرّج من المدرسة الحربية، ويحلم بقيادة الجيش. لكن والده استغرب هذا الطلب ورفضه. فما كان من ابنه الضابط إلا أن حمله غضبه على تحطيم ملحمة والده.

وفي رواية جديدة تشبه هذه الرواية في وجه من وجوهها، ورواها "الشيخ" عمر غصن عما قاله ضابط في الجيش اللبناني من رتبة "كابيتان" (نقيب)، جاء إلى خلدة للفصل بين عربها وشلّة علي شبلي المسلحة المستقوية عليهم بسطوة حزب الله. وقال الضابط الكابيتان "للشيخ" إن "هذه النجوم (الرتب) على كتفي، كلفتني وأهلي الملايين، ليأتي واحد ما بيسوى فرنكين (أي علي شبلي) ويحمل سلاحاً قدامي!".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024