زحلة تتهيأ للانتخابات: نواب المدينة بيادق الأحزاب

لوسي بارسخيان

السبت 2021/10/16
تسود في دائرة قضاء زحلة قناعة بأن الانتخابات المقبلة لن تحمل تغييراً بارزاً في تركيبتها النيابية المفككة، ما لم تطرأ مفاجأة جذرية تعيد إلى المدينة صوتها الذي خطفته منها الأحزاب منذ سنة 2005، وتؤمن للدائرة كتلة نيابية وازنة "يحسب لها حساباً" في الاستحقاقات التي تلي الانتخابات. 

فمنذ انسحاب الجيش السوري من لبنان شكلت زحلة "أم المفاجآت" بمعاركها الانتخابية التي صعب التكهن بنتائجها إلا بعد فرز صناديق الاقتراع. فقد كان مزاج المدينة الشعبي انعكاساً حقيقياً للمزاج اللبناني، باصطفافاته بين 14 و8 آذار. لكن الدائرة خسرت صوتها في المجلس النيابي نتيجة هذه الاصطفافات، وبات نوابها أرقاماً في موازين القوى التي استخدمتها الأحزاب لحصد مكاسب سياسية وإنمائية، ظلت زحلة خارج حساباتها.

النواب مطايا الأحزاب
ولا شك في أن التفاوت في النسيج الاجتماعي-السياسي بين زحلة المدينة وقضائها، دوره أساسي في تشرذمها النيابي منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وعمَّق القانون الانتخابي "التفضيلي" هذا التشرذم، فجعل أصوات كل طائفة في نسيجها تصب لمصلحة مرشح حزبها. وكل حزب في زحلة حمَّل نوابه مواقفه وتوجهاته السياسية في البرلمان. وصار النواب مطايا أحزابهم، فلا يكترثون إلا لرضا زعماء تلك الأحزاب، طالما أن إعادة ترشيحهم يحدده مدى رضا الكتل عن أدائهم. وهذا ما أفقد الصوت الزحلي فاعليته في محاسبة نواب الدائرة على أدائهم.

ومن أبرز تداعيات القانون الانتخابي الأخير في دائرة زحلة، توزع أصوات ناخبيها على كتل أربع أساسية متنافرة في البرلمان: التيار العوني، القوات اللبنانية، تيار المستقبل، وحزب الله. والكتل هذه لم يخسر أي منها، ولا هي أمنت ربحاً صافياً لها، وخرجت دائرة زحلة خاسرة وحيدة.

وبدأت تداعيات ذلك منذ سنة 2005، عندما فجرت زحلة في انتخاباتها قنبلة الفوز "المدوي" لتسونامي التحالف المسيحي بين العماد ميشال عون العائد من منفاه، ورئيس الكتلة الشعبية الياس سكاف، وفشل التحالف الرباعي الذي خذل ثورة اللبنانيين في انتفاضة 14 آذار. واستمر هذا الواقع في انتخابات 2009، فلم تتبدل وجهة التصويت الزحلي ضد "السلاح غير الشرعي". ذلك أن زحلة المدينة قسمت أصواتها بين التيار العوني الذي عقد ورقة تفاهمه مع حزب الله، وبين والقوات اللبنانية التي كانت قد تحولت رأس حربة في مواجهة حزب الله. فتصويت القضاء حسم المعركة هذه المرة لمصلحة تحالف القوات اللبنانية وتيار المستقبل ضد لائحة التيار العوني وحزب الله.

تبدد أصوات المستقلين
وبعد تمديد ولاية مجلس 2009 مرات ثلاث حتى سنة 2018، رسّخ القانون التفضيلي الجديد الانفصال الكلي في وجهة التصويت بين "زحلة المدينة" وقضائها. فصوتت كل طائفة لنائبها من أحزاب السلطة. إلا أن هذه الانتخابات كشفت تشتت أصوات ناخبي الطوائف في أكثر من اتجاه، ما عدا الصوت الشيعي الذي ظل متكتلا حول لائحة واحدة، فحل نائبه أنور جمعة على "راس الليستة"، بسبب عدد الأصوات التفضيلية التي نالها.

في المقابل بدد القانون مفعول الصوت السني الذي لم ينجح في تأمين أرجحية للائحة مكتملة، كما حصل في انتخابات 2009، وفقد هذا الصوت مفعوله، خصوصاً بسبب ضعف الإمكانيات "المالية" لتيار المستقبل. وهذا ما سمح للمرشحين المتمولين على لائحته وفي لوائح أخرى باختراق صفوفه. ولم يقتصر الاختلاف في المزاج على التفاوت بين "المدينة" وقضائها في هذه الانتخابات، بل كشفت التحالفات المخالفة لرغبة الناخبين نزعة السلطة الدائمة للحفاظ على مكتسباتها، ولو على حساب مزاج قواعدها.

وفي المقابل، حرر القانون الانتخابي الذي يفترض أن تجري الانتخابات النيابية المزمعة على أساسه، أحزاب السلطة من تحالفاتها، وخلط الأوراق في ما يتعلق بميول المرشحين المستقلين. وهكذا فاز الأكثر ميلا للقوات على لائحة العونيين. والأكثر ميلا للعونيين على لائحة القوات. وحصد مرشح سماه التيار العوني أصوات سنة المستقبل. ولم تغنم العائلات السياسية التقليدية ما يكفي من الأصوات التفضيلية لوصولها، ففاز على لائحة تحالف فتوش–حزب الله المرشح الأرمني الأضعف بين مرشحي اللوائح كلها. وعلى هذا الأساس تبدأ الحسابات المعقودة في انتخابات 2022 في هذه الدائرة.

وجوه متكررة
ويحل الاستحقاق الانتخابات الذي حدد موعده بعد أشهر، على وقع أزمة اجتماعية ومعيشية معطوفة على واقع سياسي مأزوم. وهذا قد يحرر شطراً من اللبنانيين من "تصويتهم الأعمى" للأحزاب التي "لم تعط ناخبي دائرة زحلة بقدر ما أخذت منهم". وربما لن يؤدي هذا التحرر إلى تغير عام في المزاج الشعبي، رغم أن الأزمات قاربت بين ميول "المدينة وقضائها"، طلباً للتغيير. وتتمثل المعضلة الأساسية في هذه الدائرة في غياب البديل، علما أن العجز عن فرز "قيادات" سياسية في دائرة زحلة بدأ منذ رحيل رئيس الكتلة الشعبية الياس سكاف، التي كانت له حيثيته الانتخابية، من دون أن تتخطى المدينة إلى قضائها. وبات مرشحو تيار المستقبل وحزب الله، وكذلك مرشحو الأحزاب المسيحية  "يدينون بأرقامهم الزرقاء" للجهة التي أوصلتهم إلى البرلمان.

ولم تُنتِج انتفاضة 17 تشرين وما تبعها من تحطيم للمحرمات و"تطاول" على زعماء الأحزاب والطوائف، شخصيات من نسيج المجتمع  البقاعي، وقادرة على حمل لواء هذا التغيير ومواجهة أحزاب السلطة في تعنتها باستخدام الناس وقوداً لمعاركها الانتخابية والسياسية.

وتشير ملامح الحراك المواجه للسلطة إلى سير القيمين عليه "مركزياً" على نهج أحزاب السلطة، في محاولتهم إسقاط المرشحين عن الدائرة من فوق، بدل اختيارهم من القواعد. وهذا ما أطلق مبادرات من "ثوار البقاع"، من دون قدرتهم على فرض أسماء مرشحيهم، أو أقله إقناع الناس بالشخصيات التي قد يلجأون إلى تسميتها، طالما لا تتمتع بحيثية ظاهرة في الحراكات الشعبية.

وتتجلى معضلة هذا العجز في عدم ظهور شخصيات سياسية جديدة في دائرة زحلة. فبعض الوجوه المرشحة متكررة منذ أول مجلس نيابي منتخب بعد خروج سوريا من لبنان. وهي وجوه تتنقل بين جهة سياسية وأخرى بتوجهاتها السياسية المتناقضة. فالمهم هو الوصول إلى البرلمان، ولو كان ذلك بمعارك تخالف القناعات.

ويعيد البعض عجز زحلة عن فرز قيادات سياسية، إلى مرحلة الحكم السوري في لبنان، وإخضاعه البيوتات السياسية لقوة المال وسلطة الأمر الواقع. وهذا ما استفادت منه الأحزاب التي أدارت دفة الانتخابات بعد خروج سوريا، فحولت دائرة زحلة التي تضم 7 نواب، رافداً لكتلها، من دون أن ترفدها بأي خدمة إنمائية نوعية.

ميشال ضاهر والعائلات
وتنبهت بعض الشخصيات الزحلية لهذا الواقع. وحسب معلومات، أدى ذلك الى نقاش طويل منذ أشهر، وخرج إلى العلن منذ أيام، مع إعلان النائب ميشال ضاهر تشكيل لائحة منفصلة عن الأحزاب وعن انتفاضة تشرين في آن معاً. وهذا التوجه دونه عقبات. فأي لائحة يترأسها كاثوليكي من خارج المدينة ولا تضم شخصيات زحلية وازنة، يواجهها رد فعل عكسي في زحلة، وتحديدا على المستوى الكاثوليكي. وهذا يشكل دافعاً لشد العصب حول العائلات التقليدية مجدداً، ويحسِّن موقع الكتلة الشعبية ورئيستها في هذه الانتخابات، من دون أن يكون ذلك كافياً لتأمين الفوز لكلا الطرفين. ومن شأن ذلك- وفقاً لمراقبين- أن يقسم القواعد التي ترفض مصادرة الأحزاب للمشهد السياسي في الدائرة، ليصب في مصلحة هذه الأحزاب التي تحتفظ بكتلة ناخبين ثابتة تصب أصواتها لمصلحتها.                                   

وما لم يتبدل شيء في هذا الواقع خلال أسابيع، تبقى زحلة محافظة على "الستاتيكو" الحالي الذي غيب تمثيلها، مع تكرار حتى للوجوه النيابية الحالية، حتى لو كان المزاج الشعبي في الدائرة يميل إلى إحداث خرق لمصلحة التغيير.

انطلاق الماكينات الانتخابية
وعزز هذه القناعة إطلاق الأحزاب ماكيناتها الانتخابية في الدائرة في الأيام الماضية. وأولى البوادر لقاءان سياسيان متتاليان عقدا في نهاية الأسبوع الماضي، أحدهما افتراضي عقدته القوات اللبنانية مع رئيسها سمير جعجع، والثاني كتائبي حضره سامي الجميل وأطلق خلاله المواقف الانتخابية من زحلة. علما أن أوساط هذه الأحزاب، ومن ضمنها التيار العوني، تؤكد أن ماكيناتها لم تنطفئ ليعاد تشغيلها.

وفيما يبدو حزب الله أكثر ارتياحاً لما يمكن أن يحققه من خلال القانون الانتخابي الحالي، فإن الشارع السني يبدو الأكثر تشتتاً، ومحكوما بسياسة رد الفعل على مغالاة حزب الله في التموضع. ووفقا للمراقبين، بقدر ما يتشدد حزب الله ويتعنت في مواقفه، يمكن لتيار المستقبل أن يعيد شد عصب جمهوره، الذي لا يزال تحت صدمة خذلانه بتحالفات انتخابات 2018، وإن لم يبلغ ذلك عتبة الانقلاب على الحريرية السياسية.

تغييب زحلة حكومات ونواباً
وفي ظل المشهد السياسي الحالي، وفي حال خوض الانتخابات على أساس القانون الحالي، يمكن الحديث عن استمرار إلغاء تمثيل زحلة وقضائها في المجلس النيابي، وبقاء نوابها أحجار دومينو على طاولات الكتل، حتى لو نجحت انتفاضة تشرين في إحداث خرق بسيط من خلال "فلتة شوط" تطمح اليها، في جدار التصويت للأحزاب.

وهذا ما يسمح بالإمعان في تهميش المنطقة، والانعطاف بها نحو زبائنية تكاد أن تفرض نفسها من خلال خدمات وتوظيفات وإعانات. أما ما تحتاجه المنطقة ويمكن أن يبدل واقع أهلها الاقتصادي، فغائب عن النقاشات.

وحال نواب زحلة منذ 2005 وحتى اليوم، كحال سقوط تمثيلها في الحكومات المتعاقبة، إذ جيئ بوزراء نفوسهم في زحلة وولاءهم في مكان آخر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024