كيف تحوّل باسيل "ملهماً" لثورة اللبنانيين؟

أكرم حمدان

الثلاثاء 2019/10/29

يُسجل التاريخ لبعض القادة مكانة دائمة، نظراً لما حققوه إن في السياسة أو في الحروب أو في قيادة المجتمعات نحو تحقيق تطلعاتها.

لكن، في لبنان ومع إندلاع الانتفاضة الشعبية ضد الفساد والقهر والجوع والطبقة السياسية الحاكمة، بدا المشهد مذهلاً حين سجل وزير الخارجية ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الرقم القياسي في مدى الكره والحنق عليه، من قبل المتظاهرين في مختلف الساحات، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.

وسيبقى هتاف "هيلا هيلا هوو.." المقذع عصياً على النسيان لزمن طويل، وسيلازم صاحبه أبداً.

لفهم هذا الكم من مقت الجمهور العريض المليوني لباسيل، يتوجب التذكير وإعادة استعراض سيرة هذه الشخصية، على الأقل في الفترة الأخيرة، مع عدم تجاهل الواقع السياسي والاقتصادي العام في البلاد ودوره البارز في ذلك.

جولات الصيف
خلال الصيف الماضي، قام الوزير باسيل بجولات في عدد من المناطق اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وكأنّه بصدد الاستكشاف السياحي. لكن المواقف التي كان يُطلقها في كل محطة أو بغالبيتها كانت تُشكل استفزازاً تاماً ومتعمداً لفريق سياسي أو طائفة أو أهل منطقة. فالجميع يذكر كيف نُزعت صوره في الجنوب من قبل مناصري حركة "أمل"، والاعتراض الشديد الذي أبدته عاصمة الشمال طرابلس لنية زيارتها، وهي التي تحولت الآن إلى "عروس الثورة".

وهل ينسى اللبنانيون المواكب الجرّارة التي كانت تواكب جولات باسيل وما جرى في بلدة البساتين – طريق قبرشمون في الجبل؟ وكيف أُلغي اللقاء الذي كان مقرراً مع منسقية تيار المستقبل بعد مواقفه الاستفزازية بحق التيار ورئيسه ووزرائه، واعتراض معظم كوادر التيار على هذا اللقاء؟

وإذا كان باسيل يهدئ أحياناً من خطابه السياسي "المستفز"، وأسلوبه المتعجرف، إلا أنه لم يترك مجالاً لكثيرين لتقبله، خصوصاً في أدائه داخل الحكومة، وفي تعامله مع العديد من الملفات، ليس أقلها ملف الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية في عدد من الوزارات والإدارات، وبحجج ربما تكون مقنعة لفئة وجمهور تياره السياسي، ولكنها ليست منطقية بحق من نجح بكفاءته وبحق من يريد بناء الدولة العادلة الحقة التي تُعطي كل ذي حق حقه.

الجامعة العربية و13 تشرين
بمعزل عن شعار "الإصلاح والتغيير" الذي رفعه تيار باسيل، وكيف يُبرر ما فعله حتى الآن و"العرقلة" التي يتحدث عنها، تبقى مناسبة 13 تشرين وما سبقها في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، المحطات الأكثر استفزازاً للآخرين.

ففي الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب، الذي عُقد يوم السبت في 12 تشرين الأول، دعا باسيل في كلمته إلى "عودة سوريا إلى الجامعة العربية" مستخدما عبارة "عودة الإبن المبعد"، وهذا الأمر محط خلاف داخلي لبناني، ثم إستكمل الأمر بإعلانه في اليوم التالي (الأحد) أنه بصدد زيارة سوريا، خلال إحياء ذكرى 13 تشرين الأول من بلدة الحدث.

وفي الخطاب نفسه، هدد باسيل - بنبرة مفعمة بالتحدي والاستقواء- بقلب الطاولة على الجميع، في إشارة إلى استعداده لإسقاط الحكومة، واستهدافه الحريري شخصياً، كما رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، عندما قال: "نحن كالماء، نجرفكم في لحظة لا تتوقعونها، إن بقيتم منتظرين عند حافة النهر مرور جثتنا!". وهو بذلك استعار خطاب جنبلاط الشهير، حين قال إنه "ينتظر جثة عدوه على ضفة النهر".

العونيون والعسكريون
ولم يسلم من استفزازات باسيل وسهامه من هم داخل خطه السياسي وتياره، وخصوصاً عديله وصهر رئيس الجمهورية الثاني النائب شامل روكز، الذي انتقل الصراع بينه وبين باسيل إلى العلن أخيراً، مع اتخاذ روكز مواقف متمايزة عن "التيار"، خصوصاً لجهة حديثه عن الفساد وانهيار الدولة وتحميل الطبقة السياسية ومن بينهم "التيار" المسؤولية، وصولاً إلى ملف رواتب وتقديمات العسكريين، والذين تشكل عائلاتهم عصب "التيار الوطني الحر" السياسي.

واتهم باسيل روكز بمحاولة القيام بـ"حملات تضليلية"، سيما وأن الأخير بدأ باتخاذ خطوات عملية لتأطير العسكريين القدامى، وقدامى "التيار" الذين رافقوا عون سابقاً، وانسحبوا بعد تولي باسيل رئاسة "التيار".

وقد تُرجم هذا الشرخ بين الرجلين في إحياء "قدامى الجيش" ذكرى "شهداء 13 تشرين الأول"، بقداس بعنوان "دماؤكم أمانة في أعناقنا"، شارك فيه روكز، وتخللته كلمة باسم "رفاق شهداء 13 تشرين" ألقاها العميد الركن حنّا المقدسي، تضمنت نقداً ضمنياً لـ"العهد" و"التيار الوطني الحر"، إذ وصف الواقع في لبنان بأنه "دولة فاشلة تحكمها عصابات"، مشيراً إلى أن "زمرة من السياسيين، بينهم بعض الأولاد، يعبثون بمصير البلاد والعباد".

وباسيل هو من مواليد 1970 تزوج عام 1999 شانتال ميشال عون. خسر الانتخابات البلدية عام 1998 بعد ترشحه ضد عمه رئيس بلدية البترون السابق كسرى باسيل، كما خسر مرتين الانتخابات النيابية في دورتي 2005 و2009 ليفوز في دورة 2018. عُين وزيراً للاتصالات، ثم للطاقة، فالطاقة مرة أخرى ثم وزيراً للخارجية، فالخارجية من جديد.

يحكى الكثيرعن "إنجازاته" الوزارية (كثيرة الوعودة نادرة النتائج). لكن إنجازه الأهم هو التوصل إلى تسوية مع الرئيس سعد الحريري تتمثل بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية مقابل عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة.

في المحصلة، هل سيبقى هذا الإنجاز وتبقى التسوية التي أبرمها باسيل بعد "ثورة" اللبنانيين؟ وهل سيُعدل باسيل من خطابه الاستفزازي بعد كل هذا "الحب" الذي لمسه من المتظاهرين؟
هذا متروك للمستقبل. وإلى حينه، يُسجل للانتفاضة الشعبية إنجاز تواريه وصمته.. وغياب خطب الاستفزاز.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024