سنوية رفيق الحريري

محمود بري

الجمعة 2015/02/13

مع الأخذ بالاعتبار كل ما قيل ويُقال على كلي الجانبين، من الممكن الحكم بأن رفيق الحريري كان مسلماً معتدلاً ومنفتحاً؛ وهذه حقيقة واقعية ثابتة لا يختلف فيها المحقّون. لذا عندما يتحمّس الغيارى من حولنا للتأكيد على اعتدال الرجل، ويُبدون  استنكارهم لمجرّد وضع هذا الاعتدال في إطار التساؤل، فالأحرى بهم ممارسة اعتداله ومتابعته حتى خواتيمه، وليس رفعه كمظلّة، ثم العمل بنقيضه.

في الذكرى السنوية اليوم للراحل الكبير لم يعد ابتلاع الكلام متوافقاً مع مقتضيات الحال. فهذا السياسي الذي رحل في دوّامة زلزال لعلّه الأكبر من حجمه في تاريخ لبنان المعاصر، تتجلّى اليوم القيمة الأساسية لشخصيته السياسية، وتظهر كوصفة نادرة للإنقاذ، وسط هذا السيل المرضي من التشدد والتطرّف والتكفير الذي يتربص بلبنان من أقصاه إلى أقصاه. يتبيّن اليوم بوضوح كم كان الرئيس الحريري علامة بيضاء ناصعة في مواجهة حالات الشذوذ السوداء التي كانت باشرت منذ أيامه، وقبلها أيضاً، نخر خشب الطائفة في لبنان، في سبيل نقلها من موقعها التقليدي كحاضن أساسي لفكرة القومية العربية الجامعة، وتحويلها إلى وقود رخيص للحريق الكبير الذي كان يجري الإعداد له ورسم راياته بالفحم والظلام.

من هنا فإن الأهمية الأولى والبديهية في الذكرى السنوية للرئيس الشهيد، ينبغي أن تكون في إعادة بعث الحياة في خطّ الاعتدال الذي جسّده، والذي يُفترض أن يكون قد تحوّل بعد رحيله، إرثاً لأنصاره ودستوراً للتيار السياسي الذي أرساه وأطلقه، وليس مجرّد يافطة دعائية لتسويق شخصيات سياسية إشكالية وغير كفؤة في أحسن الأحوال.

أقول "يُفترض" لأن الواقع الذي يعيشه "المستقبل" وجمهوره يتجافى مع الاعتدال الذي أراده وعمل له رفيق الحريري، وربما كان ضحية له. ومما يُروى في تفسير لُغز الزلزال الذي أودى به، وهو كثير ومتناقض، ما يأتي من خارج فلسفات المحكمة الدولية، ليشير أن الراحل الكبير إنما سقط ضحية اعتداله بالذات، حيث رفض ان يكون في خدمة مشروع شخوص الظلمة المتطرفين، فأردوه ليجعلوا من مقتله فتيل إشعال لحريقهم الكبير. وهذه واحدة من "النظريات" المطروحة.

وفي سياق هذا المنطق لا يستقيم القول إن تجميد عضوية خالد الضاهر في كتلة المستقبل بعد أحدث "نوباته" ضد القدّيسين، هو إجراء كافٍ لمنح شهادة براءة للمستقبليين طُرّاً من بذلة التطرّف. فالقنابل الجرثومية التي ألقاها الضاهر على "السلم الأهلي" أكثر من أن تختصر بفعلته الأخيرة، وهو الذي لم يدع فريقاً من فرقاء هذا السلم إلا "ونشر عرضه"، من المؤسسة العسكرية وقيادتها إلى الأجهزة الأمنية، إضافة إلى تقنيصه بالصواريخ على "حزب الله"، حتى ضمن زمن المفاوضات التي يجريها الحزب مع تيار المستقبل... وبإرادات عُليا (دولية وإقليمية ووطنية).

لستُ أتطلّب هنا لو كان قرار "المستقبل" بتجميد العضوية قد اتُخذ منذ أشهر وسنوات، أي منذ أول هجوم مباغت شنّه هذا النائب المستقبلي المتفلّت على الجيش وهو المؤسسة الوطنية التي تعتبر عماد الوطن. فمثل هكذا تطلّب هو تعجيز خاوٍ، ثم إنه لا يفيد ولا يُجدي. لكن ما ينبغي الإضاءة عليه في هذا الخصوص هو ملاحظة أن تأجيل تجميد عضوية الرجل في التيار السياسي الذي كان محسوباً عليه، لم يكن بدافع من الحلم وسِعة الصدر، بقدر ما كان بفعل فيض من عصبية طاغية يقودها شارع مُتحفّز، هي بالذات ما أبعد العاملين بها عن الإرث الإعتدالي الحقيقي لرفيق الحريري...

لذلك فقد كان الأجدى أن يترافق قرار التجميد الأخير (والذي استبقه الضاهر نفسه ... ربما بإشارة من الداخل) بإعلان نوايا تنطق به شخصية مفصلية في التيار، يوضح حقيقة الموقف الذي كان يمكن أن يعلنه رفيق الحريري في هكذا وضع، فيما لو قُيّض لنا أن نكون اليوم في كنف حكومة برئاسته. أما التصريحات التجارية المتفرّقة التي صدرت عن فلان وعلتان من مجاميع 14 آذار، فقد جاءت أكثر من هزيلة وأشبه ما تكون بنداءات تسويق البضائع متدنية النوعية في "سوق الأحد"، فضلاً عن أنها كانت بدورها ناجمة عن عصبية دينية أكثر مما كانت موقفاً سياسياً، مع التأكيد أن مطالبة الضاهر بإزالة نصب "يسوع الملك" إنما إستهدف أولاً وأساساً الصيغة اللبنانية ذاتها كما كان اختصرها الراحل صائب سلام  في لحظة صفاء بمقولته المعبّرة "لبنان بجناحيه".

وطالما الحديث يتناول بعض الحقائق الموجعة، فالأجدر متابعته بالإشارة إلى خفوت الصوت المستقبلي المعتدل والتصالحي عموماً، على الرغم من جلسات الحوار في مقرّ "عين التينة". ويُسجّل هذا الخُفوت في ظلّ تناوب المصرّحين على "شد العصب" أولاً وأساساً، وهي العملية التي باتت تُفضي إلى استعداء الشريك في الوطن. وفوق ذلك يلاحظ افتقاد التيار إلى الشخصية – الجسر التي كانها الرئيس الحريري، والتي تشكّل طريقاً بالإتجاهين يمكن أن يعبر عليه مخلف الأطراف، في سبيل التواصل والتحاور والتلاقي، مما كان الرئيس الحريري يعمل في سبيله ومن أجله. ولا شك أن شخصاً بقامة رفيق الحريري كان ليدرك أن التخلّي عن هذين الوسطية والاعتدال كان ليُطلق الآليات المخبوءة لعملية  انهيار هذا الكيان ونحره برماح التطرّف والتعصّب المسمومة.

من هنا لا يصحّ النظر إلى اعتدال الحريري الراحل على اعتباره كان تضحية من قبله أو فضيلة شاء التقيّد بها وممارستها، بقدر ما كان نهجاً سياسياً اختطه الرجل تلقائياً لنفسه منذ أن اتخذ قراره الضمني بالعودة إلى بلده ودخول اللعبة السياسية فيه. فذلك الشاب القومي في ذروة صعود الناصرية، لم يكن في شخصيته مساحة للطائفية ولا طبعاً للمذهبية، شأنه شأن الشبّان العروبيين في تلك الأيام، حين كانت العروبة هي العباءة النظيفة التي تحتضن الجميع من دون تفرقة ولا تمييز.

اليوم اختلف الوضع. فالعروبة باتت ذكرى... كالديناصورات، والطائفية ومعها المذهبية أصبحتا الدين الجديد الذي يرفع أتباعه أحدث الأسلحة وأسمّها على بعضهم البعض. وهذا يرفع منسوب الحاجة، ليس إلى السلاح والمزيد منه، ولا إلى التصريحات النارية التي تشدّ عصبيات القبائل التي تسمي نفسها أحزاباً أو طوائف، بل هي الحاجة إلى رفيق الحريري نفسه، أو على الأقل، إلى إحياء إرثه الحواري المعتدل وسط جماعته أولاً. فهؤلاء يمثلون نصف لبنان على الأقل. وخلاص البلد لن يكون إلا بتلاقيهم مع الراغبين من أقوام النصف الآخر، وهم أيضاً أكثرية واضحة في محيطهم.

هكذا يمكن للحوار بين "المستقبل" و"حزب الله" أن يبلغ هدفه الوطني. وهكذا ينبغي الاحتفال بذكرى رجل بحجم وأهمية رفيق الحريري.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024