مؤتمر "الاشتراكي" عن النازحين السوريين: مغادرة الكلام الشعبوي

منير الربيع

الثلاثاء 2019/03/19

رائد وصباح زوجان سوريان، من محافظة الرقة في سوريا، لجآ إلى لبنان مع أطفالهما الستّة، في الأشهر الأولى للثورة السورية. بعد فتح لبنان لأبواب العودة إلى سوريا، اتخذ رائد وصباح قرار العودة إلى منزلهما، عرضا أعتدة خيمتهما في لبنان للبيع مقابل 200 دولار أميركي، بينما الرحلة من مخيمهم إلى الأراضي السورية كلّفتهما حوالى 600 دولار أميركي. أما الانتقال من محيط دمشق إلى الرقة فكلّفهما حوالى 200 دولار، أي أن رحلة عودة العائلة إلى سوريا تحتاج إلى 1000 دولار أميركي، إذا ما كانت هذه العودة مبادرة فردية من قبل اللاجئ. لم تتمكن الأسرة من العودة إلى منزلها بسبب وجود شخص مسلّح مع عائلته في المنزل، رفض الخروج منه وتسليمه لأصحابه الأصليين. لم تجد أسرة رائد مكاناً آمناً تقطنه في سوريا، ولم يتمكن من استئجار منزل، نظراً لعدم توفر أي فرصة عمل، تكفي لسداد مستلزمات الإيجار، ففضّل العودة إلى لبنان.

التجاذب السياسي
في مقابل الحالة الإنسانية والمعيشية البحتة لرائد وعائلته، ثمّة نماذج أخرى أكثر سوءاً في مسألة العودة إلى سوريا. سيدة من الغوطة الشرقية في دمشق، عادت قبل فترة إلى سوريا، كان لديها أقارب انخرطوا في نشاط المعارضة للنظام، وبعضهم انضم إلى صفوف الجيش الحر. لم يتمكّن النظام السوري من إيقاف هؤلاء، ولكن جرى توقيف هذه السيدة التي تخطى عمرها الستين عاماً، بعد عودتها إلى سوريا. بقيت في المعتقل لخمسة وأربعين يوماً، تعرّضت خلالها للتعذيب، وما إن أطلق سراحها حتّى همّت بلجوئها الثاني إلى لبنان.

النموذجان يدلّان، ولو بشكل بسيط، على ما يعانيه اللاجئون السوريون، الذين يعودون من لبنان إلى سوريا. هناك حالات كثيرة مشابهة حدثت، أي معاودة اللجوء إلى لبنان، منذ بدء حكومته بتطبيق خطّة تأمين عودة اللاجئين، والذين يواجهون صعوبات أكثر في لجوئهم الثاني، فلدى مغادرتهم، يعمل الأمن العام اللبناني على ختم جوازات سفرهم بمنع دخول لبنان لمدة خمس سنوات، فيضطرون إلى سلوك المعابر غير الشرعية للعودة إلى المخيمات اللبنانية.

جرى تقديم النموذجين في مؤتمر دعا إليه الحزب التقدمي الإشتراكي تحت عنوان: "لبنان والنازحون من سوريا.. الحقوق والهواجس وديبلوماسية العودة".

حرص المؤتمر، الذي كان برعاية وليد جنبلاط ومحطّ اهتمامه الشخصي، على الإضاءة على مختلف جوانب أزمة اللجوء، والأزمة اللبنانية في التعاطي مع هذه القضية، لا سيما في ظل تجاذب سياسي وشعبوي حول الملف، ومع غياب أي رؤية حكومية واضحة أو موحدة للتعاطي مع هذا الملف.

لربما كان جنبلاط الأصدق في تعبيره المختصر حول الأزمة وكيفية التعاطي معها، قائلاً أن لا حلّ لملف اللاجئين في ظل رفض النظام السوري لعودة السوريين، متمنياً "أن يبقى هذا الملف بعيداً عن الوزارات المعنية، كي يؤمَن الحد الأدنى لهم من العيش الكريم في التعليم وغير التعليم".

تناقضات لبنانية
تتطابق وجهة نظر جنبلاط مع وجهة نظر الإختصاصيين والخبراء في هذا الملف، وتتوحد عند التخوف من استِعار النزعة العنصرية في الخطاب السياسي اللبناني، والتي قد تنعكس انفجاراً اجتماعياً بين اللبنانيين والسوريين، لا سيما عندما يتم التعاطي مع هذا الملف بنوع من الشعبوية والغايات السياسية. إذ يخلص المؤتمرون إلى التشابه ما بين الخطاب العنصري اللبناني تجاه اللاجئين السوريين وخطاب الكراهية الذي عبّر عنه ارهابي نيوزيلاندا، من خلال ما كتبه على سلاحه بأن اللاجئين المسلمين يفككون المجتمع الغربي، ويحتلون بلاد أصحاب الارض. هذا الخطاب يتطابق مع الكلام اللبناني تجاه اللجوء السوري، وقد يؤدي في النهاية إلى انفجارات متتالية، كان قد مُهّد لها من خلال سلسلة إجراءات بحق اللاجئين كمنع التجول أو الترحيل القسري.

تناول المؤتمر جملة من المفارقات أو التناقضات اللبنانية، والتي لا تغيّر شيئاً من جوهر القضية أو توصيفها الدولي. من التناقض ما بين مصطلح لجوء ونزوح، إلى التلاعب الكلامي حول العودة الآمنة أو الطوعية. وهذه كلها تهدف للتهرب من الالتزامات الدولية. والانقلاب على احترام القانون الدولي. مع التأكيد بأنه لا يمكن حل قضية اللاجئين من دون الحل السياسي. وما الكلام اللبناني عن "عدم انتظار الحل السياسي" إلا تورية وتهرب من الوقائع والحقائق.

بدأت الخطيئة اللبنانية في التعاطي مع ملف اللجوء السوري في العام 2013. حينها، جرى على نحو متسرّع إعداد تقرير لأول مؤتمر دولي معني بالقضية.  حمّل التقرير مسؤولية كل خسائر لبنان لأزمة اللجوء. لكن الأكيد، وفق الخبراء، أن قيمة التقرير العلمية ضعيفة جداً. وكان الهدف منه الحصول على مساعدات. السردية كانت جزئية ومنحازة وأحادية الجانب، ولم يتم إعداد أي تقرير آخر. حتى الأرقام التي استخدمت فيه كانت غير دقيقة. وفيما كانت الحكومات اللبنانية تعد بإعداد تقارير أكثر دقة وموضوعية، إلا أن ذلك لم يحصل. ولذلك، فإن ما بني على باطل فهو باطل. وهذا أساس الإشكال في التعاطي اللبناني مع ملف اللجوء. فاللاجئ يستفيد من حقوقه لمجرد أنه انسان، قبل تصنيفه بين لاجئ ونازح، ومسؤولية حماية اللاجئين تقع على عاتق الدولة اللبنانية. ولبنان ملزم بعدم إعادة أي لاجئ قسرياً إلى بلاده.

"جيو - مذهبي"!
ركز المتعاقبون على الكلام على: ضرورة رفض نظرية المؤامرة الدولية على لبنان. الالتزام بمسار الحل السياسي. النأي بالنفس عن الانحيازات إلى أي طرف في سوريا. وضع خطة لبنانية لخدمة لبنان، من دون انتهاك حقوق اللاجئين. الالتزام بالقانون الدولي، وبديبلوماسية عاقلة في التعامل مع المجتمع الدولي. مغادرة الكلام الشعبوي ومنطق التعصب.

والأساس يبقى في الفصل ما بين تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، وتحميل هذا الوضع إلى اللاجئين. فالأزمة السورية أدت إلى عطبين أساسيين: استعصاء سياسي، وعجز عن الوصول إلى تسويات، بسبب الانقسام حول الوضع السوري. أما الضرر الاقتصادي، فله بعد سياحي وتجاري. ويجري تحميل الآثار السلبية للأزمة للاجئين السوريين.. وهذا غير صحيح.

الدكتور أنطوان حداد ركّز على أن ما يجري في سوريا من فرز ديمغرافي، ليس من قبيل الصدفة، مشيراً إلى أن 13 مليون سوري يعيشون داخل مناطق خاضعة لسيطرة النظام، ما يعني أن التركيبة الديمغرافية في مناطق النظام، أصبحت حوالى 55 في المئة من السنّة، مقابل 45 في المئة من الأقليات. وهذه الهندسات السكانية ليست صدفة. معتبراً أن هناك بعداً "جيو- مذهبي" سيتحكم بملف إعادة اللاجئين. في مقابل طرح أسئلة حول تقييم إجراءات الأمن العام في تنظيم عودة اللاجئين، خصوصاً في ضوء المعلومات عن موافقة النظام على عودة بعض اللاجئين، ومعارضته عودة البعض الآخر. لأن هذا مسألة غير قانونية. فلأي سوري الحق في العودة إلى وطنه. ولكن أن يقرر النظام السوري من يحق له العودة ومن لا يحق له، فهذا غير قانوني، ويتعارض مع المفهوم البديهي للعودة.

تفكيك الأساطير
والأساس أيضاً، هو أن الأرقام التي تحكى عن العودة، التي جرت منذ العام 2017، هي أرقام مضخمة لأهداف سياسية، يهدف مطلقوها إلى وضعها في سياق المزايدة السياسية، والدفع باتجاه عملية "إعادة الإعمار". كل السوريين يريدون العودة ولكن، اذا ما توفرت ظروف العودة وأدنى الحقوق المعيشية، وانعدام الأسباب الأمنية والسياسية التي أدت إلى اللجوء. وهذا لا يمكن تحقيقه من دون توفير ضمانات العودة الآمنة للاجئين. العودة الآمنة هي الطوعية والكريمة. بينما العودة إلى غير المناطق الأصلية فهي عودة قسرية تماماً كحال اللجوء القسري.

يجب الموازنة الجوهرية بين الإنساني والسيادي والديبلوماسي، وفق الخبير زياد الصائغ، مع التأكيد على أن عودة اللاجئين أمر مهم وأساسي، يوازي استضافتهم. الأزمة بحاجة إلى تفكيك لأساطيرها، التي تشكلت من خلال ادعاءات انتصارية وأهداف سياسية وشعبوية. ما يحدث لا يمت بأي صلة إلى الديبلوماسية اللبنانية. المشكلة تبقى في غياب إقرار سياسة عامة، بسبب الخلافات السياسية. مزج هاجس التوطين بقضية اللاجئين فيه خبث ومرض. وبعض اللبنانيين مسؤول عن تهجير السوريين من سوريا، بدخلوهم إلى مناطقهم، ودفعهم إلى مغادرة أراضيهم باتجاه لبنان. وتحدث الصائغ عن كلام الفاتيكان حول التغيير الديمغرافي في سوريا.

حسب آخر إحصاء أجري في العام 2018، فإن عدد اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان، بلغ مليوناً ومائة وسبعة وثلاثين ألف لاجئ، 79 في المئة منهم لجأوا من مناطق لا تزال أوضاعها سيئة جداً، وهي في الشمال السوري: حلب 155 ألف لاجئ، منبج 25 ألف لاجئ، وتل أبيض وعين عيسى وعين العرب 15 ألفاً، وعفرين 10 آلاف، وإدلب 168 ألفاً. وبالانتقال إلى شرق سوريا، فلجأ من جنوب الرقة إلى لبنان حوالى 57 ألف لاجئ، ومن دير الزور بين غرب الفرات وشرقه لجأ 20 ألف لاجئ، ومن البادية السورية 2500 لاجئ، ومن حمص في الوسط لجأ 240 ألف لاجئ، ومن ريف دمشق الجنوبي والريف الغربي، لجأ 135 ألف لاجئ، و80 ألفاً من درعا و10 آلاف من القنيطرة. وواحد في المئة من مناطق أوضاعها جيدة. وهؤلاء لجأوا إلى لبنان من الحسكة 25 ألفاً، من السويداء 3500، من اللاذقية 5 آلاف ومن طرطوس 4 آلاف. و13 بالمئة من المناطق وضعها متوسط، وهي الباب، حيث لجأ إلى لبنان منها 40 ألفاً، وحماه 85 ألفاً، وريف دمشق الشمالي 30 ألفاً. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024