حكومة الترويض.. بعد "حرب السنتين" ضد الشعب اللبناني

نبيل الخوري

الثلاثاء 2021/09/14

قبل عامين ارتكب الشعب اللبناني "جريمة" بحق العصابات اللبنانية الحاكمة. "جريمة" قوبلت بعقاب جماعي مروّع. فهذا الشعب تمرد وانتفض في 17 تشرين الأول 2019، ضد نظام سياسي يهيمن عليه تحالف زعماء الحرب والمصارف وكبار التجار والمقاولين ورجال الأعمال الفاسدين وحزب الله.

رسالة الانتفاضة
عندما احتشد حوالى مليونَيْ مواطن في شوارع وساحات المدن والقرى اللبنانية، يوم الأحد 20 تشرين الأول 2019، على وقع شعارات "كلن يعني كلن" و"هيلا هيلا هو..."، كانت الرسالة واضحة: أغلبية الشعب اللبناني ترفض استمرار هيمنة هذا التحالف على السلطة، وتريد الانتقال من حالة الدولة الهشّة التي يجري توظيفها في خدمة المصالح الخاصة لمكونات هذا التحالف (وللاعبين خارجيين) إلى دولة قوية. دولة القانون والمؤسسات. لا تُستَخدَم مواردها ومؤسساتها بما يخدم الشبكات الزبائنية للسياسيين والمصرفيين والتجار والـ"بيزنيس" الخاص بهم، وبما يضاعف منافعهم وأرباحهم، على حساب المصلحة العامة والخدمات العامة التي يجب أن تضطلع بها الدولة. رفَعَ سكان لبنان صوتهم في ذلك الخريف ليطالبوا بدولة لا مجال فيها للمحاصصة وتقاسم المغانم والزبائنية والنفعية ومحاباة الأقارب والفساد وهدر المال العام.

دولة مؤسسات تسهر على تطبيق الدستور والقانون على قاعدة المساواة بين جميع المواطنين. أي دولة لا تتيح الإفلات من العقاب. دولة تدير المالية العامة والسياسات الضرائبية بشكل عادل. وتضطلع بمهامها البديهية في قطاعات الطاقة والكهرباء والمياه والتربية والصحة والاستشفاء، بكل فاعلية وشفافية ونزاهة. دولة مزدهرة، تستقطب الاستثمارات وتوفر فرص العمل. دولة العدالة الاجتماعية.

النظام يرد: عقاب جماعي
كل هذه الطموحات الشعبية، المشروعة، في منظور الحق، هي "جريمة" تستحق العقاب، في منظور العصابات الحاكمة ونظامها الغنائمي والفاسد. وهكذا كان.

على الفور، وزّع أركان التحالف الحاكم الأدوار لتنفيذ العقاب الجماعي بحق الشعب اللبناني الذي تجرأ على التمرد. وشنوا عليه حرباً اقتصادية ونفسية وبوليسية. عملياً، كانت جميع قوى السلطة في حالة انهيار، باستثناء الطرفين الأقوى على الإطلاق، وهما "حزب المصارف" وحزب الله.

توزيع أدوار بين المصارف وحزب الله
أقفلت المصارف أبوابها، ثم فرضت على حسابات وتعاملات وسحوبات المودعين قيوداً غير قانونية. وصادرت مدخراتهم بالدولار الأميركي. وطبقت بحكم الواقع "هيركات" على صغار المودعين من خلال بدعة "اللولار". وبموازاة ذلك، تركت الحرية لكبار المودعين لتحويل رساميلهم إلى الخارج، في ظل عرقلة عملية إقرار قانون الـ"كابيتال كونترول". وحصل كل ذلك في ظل بدء مسار انهيار قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار. وهو مسار لا يخلو من عمليات تلاعب متعمدة، هدفها نسف القدرة الشرائية وإفقار الفئات الشعبية المتوسطة والفقيرة، والانتقام منها ومن انتفاضتها. سلوك المصارف أربك المواطنين وخلط ترتيب الأولويات لديهم. فراحوا يُركّزون على كيفية صمودهم وتأمين مداخيلهم بالحد الأدنى، وتراجع اهتمامهم بحركة الانتفاضة. واعتمدت المصارف خطاباً مخادعاً جعل المواطنين يتوهمون بأن هناك دوماً إمكانية لاستعادة ودائعهم بالدولار.

أما حزب الله، فقد تولى مهمة المساهمة في قمع الانتفاضة وشيطنتها. استخدم العنف من أجل إثارة الخوف لدى المتظاهرين في الساحات. والدعاية الإعلامية من أجل التشكيك بدوافع وأهداف انتفاضة غالبية الشعب اللبناني. وهو سلوك أدى إلى تراجع زخم التظاهرات الشعبية خصوصاً في بيروت والجنوب. فنجح في حماية النظام.

قمع الانتفاضة
طبعاً، لم يكن الحزب وحده من استخدم القمع. بل اضطلعت كل أحزاب السلطة بالمهمة في مناطق سيطرتها. العونيون في جل الديب وعلى مداخل القصر الجمهوري. الجنبلاطيون في الجبل. حرس نبيه برّي أمام مجلس النواب، حيث كان القمع أشد شراسة، إذ أدى إلى وقوع إصابات خطيرة في صفوف المنتفضين، الذين فقد عدداً منهم أعينهم. ولاحقاً، شارك الجيش اللبناني في القمع، خصوصاً في طرابلس، حيث سقط ضحايا بالرصاص الحي. كما تولى بعض القضاة مهمة استكمال القمع من خلال "فبركة" ملفات للمتظاهرين أو محاكمتهم بسبب ممارستهم لحقهم في التعبير والاحتجاج، مقابل عدم تحرك القضاء لمحاسبة المسؤولين عن كل أعمال القمع الوحشي، غير القانوني، الذي تعرض له المواطنون. فضلاً عن تقاعس القضاء اللبناني (مع استثناءات محدودة جداً) عن محاكمة المصارف المتهمة بسرقة أموال المودعين لصالح مالكي المصارف وكبار المتمولين والزعماء السياسيين. كذلك، تطوّعت أبواق إعلامية للإسهام في حملة القمع والشيطنة، من خلال ممارسات صحافية تتسم بالتعتيم والتضليل والاجتزاء وفبركة الأخبار الكاذبة.

الإذلال المتعمّد
بعد صدمة المصارف للناس وقمع الانتفاضة، وبعدما ساهمت أزمة الكورونا في انكفاء الموجة الاحتجاجية، وبعد جريمة تفجير مرفأ بيروت، انتقلت العصابات الحاكمة إلى مستوى آخر من العقاب، يتمثل في إذلال الناس على محطات الوقود وأمام الصيدليات والمستشفيات والأفران.. ومن خلال الارتفاع المتعمّد للأسعار، وتفاقم أزمة الكهرباء والمياه التي تهدد القطاعات كافة، لاسيما التربوية والتعليمية والصحية.

حكومة ميقاتي: قطف ثمار العقاب
مع تشكيل حكومة نجيب ميقاتي اليوم، لم تتوقف الحرب الاقتصادية والنفسية والبوليسية ضد الشعب اللبناني. بل انتهت فقط جولة السنتين من هذه الحرب. والآن، يستعد تحالف المصارف والمحتكرين وحزب الله ورجال الأعمال الفاسدين وزعماء الأحزاب التقليدية لاستكمالها، مركزّين خصوصاً على محاولة قطف ثمار هذا العقاب الجماعي الذي مورس على مدى عامين، من تشرين الأول 2019 حتى أيلول 2021. سيكون هدفهم من الآن فصاعداً ترويض الناس، بكل ما للكلمة من معنى. سيعملون على إخضاع وتدجين اللبنانيين من خلال آليات عدّة متكاملة:

التحكم بالسلوك الانتخابي
أولاً، تعميم الفقر والبؤس أدى إلى حرمان قسم كبير منَ الناس منْ حاجات أساسية، وزاد من عجزهم عن تسديد فواتير استشفائية أو مدرسية وجامعية. فكثرت الحالات التي تولى فيها زعيم سياسي أو محلي، أو رجل أعمال نافذ، تغطية هذه النفقات والفواتير. وهذه الظاهرة مستمرة وقد تتوسع. وازدادت أيضاً عمليات تقديم الإعاشات الغذائية. والآن، تحاول القوى الحاكمة الاستفادة من مشروع "البطاقة التمويلية"، بما يمكنها من الحفاظ على شبكاتها الزبائنية؛ سيطرة التيار العوني على وزارة الشؤون الاجتماعية ستتيح له الحصول على الحصة الأكبر ربما، طالما أن حزب الله ووليد جنبلاط لديهما شبه اكتفاء ذاتي يضمن لهما استمرارية شبكاتهما الزبائنية.

كل ذلك من شأنه أن يساهم في التحكم بالسلوك الانتخابي لنسبة معيّنة من المواطنين. إذا كانت هذه النسبة مرتفعة، ستضمن الأحزاب الحاكمة، المسؤولة عن انهيار البلد وإفقار الناس، إعادة تجديد هيمنتها النيابية.

قمع الحريات
ثانياً، ستحاول الحكومة الجديدة إخضاع الناس بواسطة أساليب قمعية مختلفة، أبرزها قمع الحريات: حرية التعبير، الصحافة الحرّة، النشر الحر على مواقع التواصل الاجتماعي. من المرجح تصعيد سياسة كم الأفواه. كأن تنجح وزارة الإعلام ذات الصبغة البعثية-الأسدية، بإقرار قانون يفرض قيوداً على الصحافة الإلكترونية ومنصات التواصل التي ساهمت في انتشار الأفكار والنقد والمعلومات والفضائح التي يتورط فيها السياسيون.

انفراج مخادع
ثالثاً، إذا كانت القوى الدولية والغربية متواطئة فعلاً مع هذا التحالف اللبناني الحاكم في عملية تأليف الحكومة، ومستعدة بالتالي للإفراج عن بعض المساعدات المالية الدولية مقابل إصلاحات شكلية ومحدودة، فمن شأن ذلك أن يُحدِث انفراجاً نسبياً في لبنان. قد يتم تحسين سعر صرف الليرة وإيجاد حلول جزئية لأزمة الوقود والكهرباء، وتنفيذ بعض المشاريع في مجال البنى التحتية. فضلاً عن فرملة انهيار القطاع الصحي والتربوي.

في حال حصل كل ذلك، ستحاول العصابات الحاكمة استغلال الوضع والتسويق له بوصفه إنجازاً يستحق "المكافأة". وستطلق دعاية إعلامية تهدف إلى تضليل الرأي العام وإقناعه بانفراج مخادع. وسوف تسعى للتأثير على مواقف وتصرفات الجمهور، ليكفّ عن الاحتجاج والسخط وليَرضى بما تقدمه له السلطة من فتات. وفي ظل اليأس الذي يشعر به كثيرون، والهجرة التي زادت وتيرتها، ومحدودية تأثير ما بقي من احتجاج، ستنعم القوى الحاكمة بخضوع وولاء المناصرين والمخدوعين والانتهازيين والمنتفعين، لها ولمرشحيها في الانتخابات المقبلة.

ما هي أولوية الغرب؟
معالم سيناريو تساهل الغربيين والمانحين الدوليين مع فاسدي ولصوص لبنان ليست واضحة بعد. شرط تقديم المساعدات لا يزال يتمثل قي تنفيذ رزمة الإصلاحات والتدابير المطلوبة منذ "سيدر" وفي إطار المفاوضات مع "صندوق النقد الدولي". لكن ماذا لو نجح التحالف اللبناني الحاكم في استدراج القوى الدولية والغربية إلى تقديم التنازلات؟ كأن تكون قد فضلت التضحية بالإصلاحات الشاملة -من المستحيل تطبيقها في ظل هيمنة المافيات نفسها على السلطة- مقابل الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار الأمني والاجتماعي؟ وذلك في تكرار لمعادلة التضحية بالسيادة من أجل تجنّب حرب أهلية جديدة، بعد أحداث أيار 2008؟

هذه التساؤلات تفترض وجود أجوبة تشاؤمية. لكن ماذا لو رفضت الدول المانحة، خصوصاً فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، تقديم أي مساعدة مالية للبنان من دون إصلاحات جدية؟ وماذا لو تشدد البنك الدولي في تمويل "البطاقة التمويلية" بما يَحول دون استغلالها انتخابياً؟ فهل ستفشل عملية ترويض الشعب اللبناني، فيمارس الأخير عقاباً جماعياً مضاداً في الانتخابات النيابية وحرباً مضادة في الشارع، فيسقط النظام بالضربة القاضية؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024