لماذا خنق اللاجئون السوريون أنفسهم؟

يوسف بزي

الخميس 2021/06/10

السجناء لديهم حلم بديهي واحد: الخروج. ويتفق معظم من كتب عن "سوريا الأسد" يوماً على أن هذه البلاد سجن كبير. بل وأسوأ السجون في العالم.

حين شاعت عبارة "الوطن ليس فندقاً نغادره.." في أوساط السوريين المنتفضين على الأسد، وقد بدأت براميله بالسقوط على رؤوسهم، بدت العبارة شديدة التصنّع في الوطنية. بل إن الوطنية نفسها ظهرت وكأنها قيمة أرفع شأناً من حياة المواطنين وأمنهم وكرامتهم. كانت دعوة لتقبّل أي مصير سيء والخضوع للموت نفسه في معظم الأحيان.. فقط من أجل رفض الهجرة أو الهرب. وعلى الأرجح، كان من أطلق هذه العبارة ومن تبناها إما عديم الحساسية تجاه الأهوال التي أصابت السكان وإما بعيد جداً عن أي خطر أو تهديد، أو ربما انتحاري بأجساد الآخرين وأرواحهم.

على أي حال، ووفق أرقام العام 2018، خرج نحو 13 مليون سوري من بيوتهم، نصفهم تقريباً تحولوا إلى "نازحين" داخل سوريا، ونصفهم انتشر في دول الجوار وأوروبا. وهؤلاء يشكّلون أكثر من ستين بالمئة من مجمل سكان سوريا قبل العام 2011. وبمعنى آخر، كانت سوريا بالنسبة لهم "فندقاً" في الجحيم.

بالطبع، كانت مهزلة أعداد المقترعين في انتخابات الأسد، تدلّ أن النظام "يملك" أصواتهم حتى ولو كانوا قاطنين في آلاسكا.. أو مدفونين في مقابر جماعية.

وأظن أن المعضلة الكبيرة تبدّت هنا، أي في "تمكين" بشار الأسد من امتلاك ملايين الأصوات، ولو غشاً وتزييفاً وكذباً فاحشاً. ليس مهماً أن العالم كله، وحتى حلفاء الأسد، يعرف التزوير الشامل في أعداد المقترعين كما في الاقتراع نفسه، وأن الانتخابات كلها بدت مهانة متعمّدة للسوريين. لكن الأهم هنا هو انعدام الاعتراض الفعلي لمن هم خارج سوريا، وتخليهم شبه الطوعي عن أصواتهم.

استطاع النظام بسهولة فائقة "التشبيح" على ملايين السوريين مصادراً أصواتهم من دون أي مقاومة فعلية. لماذا وكيف؟

في لبنان مثلاً، شارك في الانتخابات خمسون ألفاً فقط من أصل مجمل السوريين المقيمين على أراضيه (وهم بحدود مليون لاجئ أو غير لاجئ). مع ذلك، ظهر أن الخمسين ألفاً هم سوريو لبنان. هم الصورة والفعل والحضور والتعبير. أما مئات الآلاف فتحولوا إلى أشباح.. بلا صوت.

هذا المشهد يعبّر باختزال مرعب معنى السلطة الأسدية والعلاقة معها. لكنه يعبّر أيضاً لا عن هزيمة الثورة وحسب، بل عن اضمحلال السياسة في سوريا. "انتصار" الأسد هو هنا: موت المعارضة.

يقول ياسين الحاج صالح في كتابه الأخير، "الفظيع وتمثيله" (دار الجديد): يُظهر العقد الفائت أنه ليس هناك سياسة في ما يُظن أنها السياسة في سوريا (وربما في نطاق أوسع حولها). بقدر كبير تنحلُّ السياسة المتعارف عليها في التعذيب والحرب التعذيبيّة من طرف الحكم الأسديّ وحُماته، وفي الدين وأهله و"الجهاد" (وهو تعذيب وتغييب، وليس حربًا فقط) عند الإسلاميين، وفي خنق الذات وأشباه الذات عند المعارضة التقليديّة.

"خنق الذات" حدث على نطاق يشمل ملايين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا وسائر أصقاع العالم. وهذا بتقديري أشد "الفظاعات" التي أصاب بها الأسد خصومه.

ببساطة، كان يمكن خارج سوريا تنظيم انتخابات مضادة بالتوقيت نفسه، والاقتراع لكلمة "حرية"، أو "سوريا" مثلاً، تشمل بلاد اللجوء، وتحت إشراف كل من يرغب من جمعيات ومؤسسات دولية. كان يمكن وضع الصناديق على مبعدة أمتار من سفارات النظام. وكان يمكن ابتكار الكثير من المبادرات.. وصولاً إلى العنيفة منها، ولو إلقاء حجر على زجاج سفارة.

لا يتعلق الأمر فقط بحادثة الانتخابات، إنما بحقيقة خنق الذات صوتاً وجسماً وإسماً وهوية وسياسة. فاليوم، بعد عشر سنوات على الحرب والتهجير الكبير، تبدو الثورة (للأسف) وكأنها كانت ذريعة للخروج من السجن الكبير.. هروب وحسب. اقتلاع ذاتي وتخلٍّ بوصفهما شرط النجاة الوحيد. هذا ما تحاشاه الفلسطينيون لأكثر من 73 عاماً. وهذا ما يحتاج إلى نقاش آخر، في التشابه والاختلاف بين الاحتلال الأسدي والاحتلال الإسرائيلي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024