إنها الحرب الأهلية.. الاقتصادية

يوسف بزي

الأربعاء 2020/07/01

في بضعة أشهر انتقل لبنان من اقتصاد يختزن عشرات المليارات من الدولارات إلى اقتصاد شتلة البندورة على الشرفة. سرعة قياسية في واحدة من أسوأ الكوارث المالية في التاريخ الحديث.

في هذه الفترة أيضاً، انتقل اللبنانيون بسرعة مذهلة من أنصع ثورة مدنية إلى شراذم كئيبة، بكماء.

حدث أيضاً منذ استقالة حكومة سعد الحريري إلى آخر جلسة لمجلس وزراء حكومة حسان دياب، انهيار النظام السياسي وصيغته المشوَّهة "ثلثاً معطلاً" (بدعة قاهرة) أو "ميثاقية" (بدعة كاذبة) أو "ديموقراطية توافقية" (بدعة أشد كذباً).

في بضعة أشهر تبدد كل شيء: المال، المجتمع، السياسة.

مع ذلك، بقي "العهد" قوياً، وظل حزب الله فائض القوة، واستمر كل الزعماء بلا استثناء أقوياء. بل أقوياء جداً. وعلى الأرجح، يتلازم الانهيار هنا مع تضخم القوة هناك في علاقة تناسبية، تجعل ما يسمونه "أزمة" يرفد الأقوياء بالمزيد من القوة.

لا يمكن فهم هذا التناقض المريع بين حال البلاد المدقع وحال حكّامه إلا باستيعاب ما حدث خلال 15 عاماً الماضية، عندما نُفذت على مراحل اتفاقية غير مكتوبة تنص على تسليم مصير لبنان لحزب الله من جهة، مقابل تسليم قادة الطوائف مصالح لبنان ومقدراته.

بمعنى آخر، القوى صاحبة السلطة، الآتية من مسلسل التسويات – الصفقات، المبتدئة من "الحلف الرباعي" إلى "تفاهم مار مخايل" مروراً بـ"اتفاق الدوحة" وصولاً إلى "التسوية الرئاسية"، شقت مساراً قضى على النظام اللبناني (الصيغة والميثاق والدستور)، متحولاً إلى تفاهمات بين عصابات بالمعنى المافيوي. وهذا ما منحها القدرة على التهام الدولة، ونهب الاقتصاد وتخريبه، ومصادرة المجتمع واستتباعه. فعلوا ذلك ليس لأنهم وفق التفسير البسيط أشرار بطبيعتهم، بل لأن فحوى الوفاق الوطني القائم على انعدام الثقة ظل ينزاح من مبدأ التوازن إلى مبدأ التحاصص حتى تحول إلى ما أسماه أحمد بيضون "المناهبة".

التجارب والمحطات المتوالية منذ العام 2005، رسخت يقيناً تلك الدوامة اللانهائية المصطنعة: نحمل السلاح ونستقوي بالطائفة وعصبيتها لأن لا "دولة عادلة" متحققة. وتلك "الدولة العادلة" مستحيلة الوجود أو مستعصية على البناء طالما هناك جماعة تحمل السلاح ومعتصمة بعصبيتها.. وهكذا دواليك، تحولت الدولة إلى فكرة مستعصية.

على هذا اليقين، باتت السياسة الوحيدة الممكنة هي هذه التي سادت في لبنان طوال 15 عاماً الماضية (على الأقل)، أي انصراف كل طائفة إلى عصبيتها ومعقلها وحصر تمثيلها بزعامة أو تيار أو حزب، يتولى المنافسة والمنازعة لتأمين حصتها من حفل "المناهبة" المدوخ بنهمه وجشعه وشراسته. وهذا ما يفسر العجز اليوم عن تشكيل أي حكومة فعلية أو تنفيذ أي إصلاح. لقد استنفدوا كل شيء. الإفلاس التام كحقيقة وطنية وكيانية.

هذا ليس فساداً. بل يفوقه بكثير. نوع من حرب اقتصادية أهلية تسببت حتى الآن بإسقاط الدولة وإفلاس الخزينة وتدمير المجتمع. وكان وهم "الثورة" أن هناك أشخاصاً محددين يمثلون لائحة "كلن يعني كلن"، إلى أن انكشف للجميع أن "كلن" لا عد لهم ولا حصر. وهذا هو سر ومصدر قوة الأقوياء.

على أي حال، يمكن مجدداً تبسيط مأزق لبنان ومصيبته بجملة "تاريخية" لا تنتسى كتبتها صحيفة سويسرية عندما اجتمع القادة اللبنانيون في مدينة لوزان عام 1984: "كان يمكن تشبيههم بالمافيا.. لولا أننا نحترم المافيا بعض الشيء".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024