تشكيلة حاكمة.. "شيعية" متحكمة

أحمد جابر

الإثنين 2019/10/28

اختيار كلمة التشكيلة لوصف مكونات الحكم اللبناني ليس استنساباً عشوائياً، بل هو تعبير عن واقع الحال، حيث النظام الموروث الطائفي يديم استمرار سيطرته من خلال تشكيلات طائفية متعاقبة، تحكمها وتتحكم بها توازنات أهلية، شبه مجتمعية متبدلة.

لم تتطابق كلمة نظام مع النظام اللبناني في أي حقبة من حقبات ما بعد الاستقلال عام 1943، بل إن ما كان سائداً، ويستمر حتى اليوم، هو نوع من الإنتظام العام، أي الاندراج في سياق "تسويات" ظرفية مشوهة، تسمى تلفيقاً، تارة بالميثاقية اللبنانية، وطوراً بالعيش المشترك. هذا الانتظام اهتز مراراً، وها هو يهتز بعنف على وقع التحرك الشعبي الحاشد، الذي أطلق شرارته سوء حكم التشكيلة الحاكمة والمتحكمة بشؤون كل اللبنانيين.

تشكيلة ميليشياوية
الميليشياوية هي " البناء الفوقي" لرأس الهرم الرسمي اللبناني. مضمون الميليشياوية الراهنة التسلط، ووسيلة زعامتها النهب، وأسلوب إدارتها القمع، وعماد بناء تشكيلتها الفساد، وبرنامج يومياتها المحاصصة ومراكمة عائداتها، وسلاح حراسة مكتسباتها التحريض الطائفي والمذهبي، واستثارة العصبيات الأهلية، وأداة سيطرة بعض أطرافها التلويح بالحرب الأهلية، وإبقاء لبنان على حافة انفجارها.

تراتبية ميليشياوية
من دون إطالة، تقدمت الشيعية السياسية تباعاً لتحتل رأس هرم الميليشياوية المذهبية السياسية. مسيرة تقدم هذا الطرف الأهلي بدأت منذ العام 1943، عام الاستقلال، اجتاز خلالها محطات سياسية متوالية صنفته - أي المحطات- ككتلة أهلية اجتماعية ناهضة. من سمات هذا النهوض تبدل بنية الشيعية لجهة موقعها في الإنتاج وفي الاقتصاد وفي الثقافة وفي الديموغرافيا وفي تماسها مع قضايا التقدم والعروبة والاشتراكية.. حصيلة كل ذلك، أمنت انتقالاً للواقع "الشيعي" ولمواقعه، من وضعية الطرفية في التشكيلة الاستقلالية الأهلية اللبنانية، إلى قلب المركز "الحاكم"، الذي تتحكم اليوم بوجهة سياساته وبالأساسي من قراراته، من فوق رأس الميثاقية الاستقلالية، وعلى النقيض من جملة مقتضيات كانت، ذات يوم، فذلكة تبرير وتسويغ واستدامة للعيش المشترك.

الشعارية وسيلة تحكم
عنوان الشعارية التي ترفعها الشيعية السياسية هو موضوع مقاومة العدو الاسرائيلي. لقد توفر لهذا الشعار سند موضوعي يوم كان الاحتلال مقيماً في الأرض اللبنانية، وتوفر له سند ذاتي داخلي من مجموع والحال اللبنانيين الذين جهرت كثرتهم بدعم جهود المقاومة، وامتنعت قلتهم عن السجال معها، لأن أولوية غالبية اللبنانيين كانت الانصراف إلى طرد الاحتلال.. والحال، أن العدو المحتل غادر، لكن السلاح المقاوم ابتكر لديمومته، أو ابتكروا له، مهمات تتجاوز ما كان له من مهمة. هذا ما بات واضحاً منذ سنوات، يعلنه " المقاومون" كخيارات استراتيجية لهم، ويشرحون معنى أنهم ضمن محور خارجي صار مقاوماً هو الآخر، بغض النظر عن من يقاوم هذا المحور، وما هي ارتداداته على الداخل اللبناني الذي دفع، ويدفع، من رصيد سياقه الانتظامي الأهلي- الاجتماعي، ثمنا مصيرياً خطيراً.

بصوت الشعارية ذاتها، جرى رفع الفيتو في وجه الحركة الشعبية أكثر من مرة. بسوط الشعارية تلوح نسخة المقاومة الحالية ضد كل احتمال تغيير أو تعديل، سعى إليه جمهور الحراك الشعبي سنة 2015، ويسعى إليه جمهور تحرك 17 تشرين الأول عام 2019.

التهديد من قبل نسخة المقاومة، والانتقال إلى ممارسة بعض من أساليبه، تنقل هذه النسخة من وضع التدخل المضاد "المموه" لكسر الإرادة الشبابية الناهضة اليوم، إلى وضع التدخل الواضح، الذي لا يجد حرجاً في إعلان انحيازه إلى "جملة النظام" الطائفية البائدة، مثلما لا يجد حرجاً في إعلان وضع " فائض" قوة المقاومة، في خدمة الحكم الذي بات واضحاً أنه حكمٌ تتحكم به نسخة المقاومة الجديدة.

هذه مرحلة جديدة تذكر من له ذاكرة بما كان لبعض الدول العربية من أنظمة شعارية "تقدم وتحرر ووطنية ووحدة"، وتذكر من لا ينسى، أن الديكتاتورية كانت حصيلة كل النظام العربي، وأن القمع كان جوابه الوحيد على كل من سعى إلى دق أبواب الكرامة والحرية والديمقراطية. ربما صرنا على عتبة "نظام" لبناني آخر. نظام يحميه القمع والديماغوجيا وإلغاء كل مظاهر الإختلاف. وهذا ما يشكل مؤشراً خطيراً على كل مظاهر "التوافقية" اللبنانية التي تشكلت بعد الحقبة الاستقلالية.

صوت التحرك الشعبي
الإحاطة بملامح التشكيلة المتحكمة الجديدة، والوقوف على معنى تراتبيتها، وفهم مغزى أن تكون الشيعية السياسية ممسكة بانضباطها ومانعة لتهديده.. كل ذلك يفرض قراءته المتأنية على من يتحرك في الشارع اليوم رفضاً للواقع القائم، وعلى من سيتابع التحرك مستقبلاً. إذ لا مفر من مواجهة سؤال: ماذا عن نحن والتشكيلة الرسمية بحلة تراتبيتها الجديدة؟ وماذا عن إدارة الصراع معها وقد صارت عدة المذهبية السياسية التي تضبط إيقاعها معلومة؟

لن يصنع أي تحرك شعبي جوابه دفعة واحدة، لكن أي تحرك ملزم بسياسة تتقن الحسابات، وتدقق في الشعارات، وتميز بين أولويات المطالب، وتدرك مخاطر الهجمة المضادة عليها من قبل قوى المستويين: الأهلي أولاً، والرسمي الذي يسيطر عليه الأهلي ثانياً.

ما هو مطلوب من التحرك ليس برسم الآتي فقط، بل هو برسم الفوري والراهن. وفي هذا المجال، لا صحة لكل القول الذي ينسب إلى التحرك عدم التنظيم، أو ينعى عليه جهله بما يريد. على الضد من ذلك، التحرك منظم بدليل خططه الكفاحية اليومية، وبدليل شعاراته المطلبية، وبدليل تصويبه السياسي على المواقع الحاكمة الرسمية. أما ما يظهر من اختلاط كلام، ومن تعدد اقتراحات، ومن هتافات غير مناسبة، ومن طموحات مطلبية غير مؤاتية، فيعود كله إلى طبيعة بنية التحرك المتشكلة من أطياف شبابية متعددة، تسعى إلى توليد لوحتها الملونة بألوان كل تلك الأطياف.

كانت الهتافات ذات يوم بعيد: خبز وعلم وحرية. يكرر الجيل الشاب اليوم هتاف الكرامة والخبز والعلم والسيادة واللافساد والاستقلال والحرية. ومن كل ذلك يطمح هذا الجيل إلى بناء وحدته الوطنية، خارج معازل الطائفية والمذهبية، ومن خلال كسر قيد النظام المستقوي بحكم مذهبياته، وبتحكم المذهبية التي تتقدم هذه المذهبيات.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024