الشيعية السياسية رأس هرم البنى المذهبية اللبنانية

أحمد جابر

الثلاثاء 2019/03/12

تلح الضرورات السياسية على تسليط الضوء على أوضاع المذهبيات السياسية اللبنانية، فهذه الشرائح سلكت سلوكاً انشقاقياً، ضمن البنيان الكياني، على مصير القسمة الطائفية الشاملة، واستكملت انشقاقها الإجمالي بمتفرعات إنشقاقية، ضمن المذهبيات الطائفية، التي باتت أشبه بدويلات متفرقة، وصارت الأشكال الزعاماتية المموَّهة ضمن أحزاب وجبهات وحركات وتيارات... هي "مجلس الولاة" اللبنانيين الجدد، أو قل مجلس الإقطاعيين السياسيين حديثي النعمة السياسية، الذين أتوا إلى ردهات الحكم والسلطة من معسكرات التدريب ومن ميادين القتال، فتخلَّقت السلطة بأخلاقهم، وحمل الحكم آيات سلوكاتهم، وهذه وتلك، على ما هو معلوم، لمّا تتجاوز حتى اللحظة جملة الخلفيات الانتظامية التي تجمع عقد البنى الميليشياوية، وتشدّ لحمة أواصر شملها بسلة من النثريات الكلامية، حيث يحتشد ضمنها موروث الأسطورة وموروث التقليد وموروث العادة، والمتداول السطحي من جوهريات الدين.

الاستيلاء والمكتسبات
لكل سلوك انشقاقي مذهبي حالي، ماضٍ معلوم، وله مسار تحول وتبدل تراتبي معروف، ضمن البنية اللبنانية، وفي علاقاته مع من يقيم معهم على تنابذ أو تساكن هش، أو من يدير معهم علاقات متبدلة ومتأرجحة وقلقة، كلما تعلَّق الأمر بمواضيع التوازنات الداخلية، وكلما كانت الموازين تختزن ضمنها معنى الاستفادة من سلطة القرار ومن مندرجات السلطة هذه في كواليس المال العام، وفي مسارب ومجارب خدمات هذا الحال وتنفيعاته وتوظيفاته والاستيلاء على ما تيسَّر منه، وفق أحكام القانون حيناً قليلاً، ومن خلف ظهر القانون في أغلب الأحيان.

على طرقات الانشقاقات الداخلية المذهبية برزت مذهبيات وخبا سطوع مذهبيات أخرى، ومن كان له قصب الأولوية في ترتيب اهتمامات البنية السياسية ومراكزها، نزل درجة أو درجات على سلَّم برامج الأولويات، في الوقت الذي صعد من كان "تحت" ليحوز على مقعد أو أكثر "فوق"، وليصارع بكل وسائله المتاحة، سياسياً وشعبياً وشعبوياً وعزلاً واعتزالاً... ليعظِّم حصته من المقاعد الهامة في هرمية السلطة والحكم، أو ليحتفظ بما ناله بعد حقبات من الصراع الداخلي المرير، بما فاز به حتى تاريخه من مكتسبات، هذا من دون أن يكون تاريخ الفوز بمقعد أو أكثر، والاحتفاظ به، هو "نهاية التاريخ" المذهبي الانشقاقي لكل مذهبية سياسية.

ستر المذهبية الفاقعة
وفق السيرة اللبنانية، يمكن الحديث عن زمان صراعي تناهبي مفتوح، بالنسبة لكل الطائفيات والمذهبيات السياسية، فهذه التوليفة الهجينة سياسياً واجتماعياً، لا يعلوها سقف ضبط انتظامي عام، ولا ترتكز إلى قاعدة سكينة انضباط اجتماعي شامل، وفي غياب الانتظام والضبط، أي في غياب الدولة التي تشكل "ضابط الإيقاع الاجتماعي"، تظل الفوضى الكامنة مرجعية للإنضباط المؤقت، وتكون هي ذاتها مرجعية صفارة إطلاق الانتقال إلى اللا إنضباط المفتوح، عندما تشم "دولة" الانشقاق المذهبي رائحة خطر تهبّ من دويلات الجوار المذهبية.

وكي لا تظلّ الصورة غائمة أو غير واضحة، يقتضي في ضوء القراءة الجديدة للبنية اللبنانية إعطاء أسماء لقوى انشطاراتها الإجمالية، مثلما يوجب إعلان الأسماء المذهبية الفرعية التي صارت ملء أسماع السياسات اللبنانية وأبصارها.

لقد بات الانشطار الطائفي مسألة دستورية في لبنان، وصارت المساواة المواطنية مساواة طائفية يحفظها قانون المناصفة بين الطوائف، ومن المساواة استولدت مقولة عدالة التمثيل والميثاقية، أي جرى تفصيل أثواب تستر المذهبية الفاقعة، وتموِّه الإلتحاقات الصغرى المتشكلة من الأسماء المذهبية المتنقلة بين المذهبيات الكبرى، أو الملحقة بها... نجد مثالاً لذلك في ملهاة – مأساة تشكيل الحكومة اللبنانية الحالية، وما حملته من مطالب "عدالتية" بحجة التمثيل الشعبي الذي أفرزه وقرره قانون الانتخاب النسبي الأخير، الذي قلَّص أحجاماً وزاد في أحجام، لكنه ألغى قوى التمثيل الشعبية البديلة المعارضة أو المعترضة، وسار على طريق الإمعان في إلغائها. لقد باتت البنية اللبنانية في عهدة مجالس "مقاطعجية" يعيدون إنتاجها إذ يعيدون إنتاج بناهم الخاصة المتفرقة، ودائماً وفق نسخ جديدة تفوق في تخلفها النسخ البنيوية القديمة المعروفة.

الفيتو الشيعي
في لوحة التعطيل المذهبي الذي تساهم فيه المذهبيات اللاتوافقية، تحتل المقعد الأول اليوم المذهبية الشيعية السياسية، فهذه باتت في موقع من يملك حق النقض على كل القرارات التي يمكن أن تكون عامةً، وهي تحتفظ لذاتها بتحديد الإرشادات والتعليمات لما يجب أن تكون عليه الأمور في الشؤون الداخلية والخارجية الهامة.

تستفيد هذه المذهبية من توظيفات عدّة أهمها مسألة الصراع ضد العدو الإسرائيلي، وما يرتبط بها من ارتباطات خارجية ما فوق وطنية، وعربية وما فوق عربية، وضد الاستكبار العالمي وأطراف مختارة من المجموعة العربية، ودائماً باسم الأمة ومصالحها!

البحث الوطني العام، أي البحث في كل ما يتجاوز الخصوصيات إلى المصالح الوطنية الموضوعية العامة، يتطلب قراءة معنى "وحدانية" الشيعية السياسية وصلابة قاعدتها، وعبثية اصطناع أو تصنيع الردود عليها من بعض "صعاليك" المنتسبين إليها بالولادة، الخارجين عليها وفق حسابات شخصية ضيقة، كما هي حال الكثيرين من روَّاد تلك الحالة الشيعية الاعتراضية. في هذا المجال، لا يفيد القول بثنائية شيعية سياسية، فالواقعي الثابت هو أن حركة أمل جرى استيعابها منذ زمن طويل ضمن أساسيات حزب الله البرنامجية، ووجودها بات توظيفي في امتداد هذه الأساسيات، ولعل مصدر تماسكها الحاسم، أو استمرار وجودها على ما هو عليه، هو وجود رئيس المجلس النيابي ورئيسها على قيد الوجود.. لذلك، فإن السؤال المطروح بإلحاح هو عن الوجود السياسي الفعلي لحركة أمل، الذي تضاءل حتى "أمحى"... على ما يردده العارفون، وعلى ما يستشفّه من المتابعة المعنيون.

مجدداً، اللبنانيون أمام بنيتهم المتشكلة من مارونية سياسية وأرثوذكسية سياسية وكاثوليكية سياسية وسنية سياسية.. فماذا عن كل منها على حدة؟ وكيف يصنع المعارضون بدائلهم من دون معرفة تفصيلية أكيدة بالبنى الطائفية والمذهبية التي تشدّ على خناق حياتهم الوطنية!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024