سعد الحريري "الجديد" المستأنس بخصومه

منير الربيع

الإثنين 2018/11/05

 

بين الرابع من تشرين الأول 2017، والرابع من الشهر نفسه 2018، تغيّر سعد الحريري كثيراً.

 

إبان الإنتخابات النيابية الأخيرة، قال الحريري بنفسه إنه تغيّر. لكن، ما غيّرته الأشهر الإثني عشر يختلف عن كل المتغيرات التي طرأت على مسيرته السياسية. عمّد سعد الحريري نفسه بالبراغماتية السياسية، منذ دخوله في الحوار الثنائي مع حزب الله في قصر عين التينة. وهي التي فرضت عليه السير بترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية، حيث كانت ذروة التغيّر في مسيرته.

 

مواجهة الحلفاء

خبر عاجل يرد من السعودية: "أنباء عن إستقالة حكومة الحريري". ظنّ اللبنانيون أن عملية قرصنة قد تعرّضت لها قناة "العربية". دقائق قليلة ويتأكد الخبر، الحريري يقدّم استقالته من رئاسة الحكومة، ويتوعد إيران بالمواجهة وقطع الأيدي، في فيديو جرى بثّه مرّات عديدة، ما تسبب بضياع السياسيين ووقوعهم في الحيرة، والذين لم يتوقعوا ما حدث، ولم يصدّقوه. في تلك اللحظات، كان الحريري يشعر أنه خسر ما كسبه ببراغماتيته، والبعض بدأ بالبحث عن بديل له، فيما هيمن السؤال إذا ما كانت حياته السياسية قد انتهت، وسيختار المنفى الطوعي فيما بعد.

 

تغيّر سعد الحريري كثيراً. صلب عوده أكثر، في مواجهة حلفائه لا خصومه. وجد في الخصوم المفترضين حبل خلاص. وبالإستناد مجدداً إلى البراغماتية، اعتبر أن الرهان على الخصوم أنجع من الرهان على الحلفاء. بل أن مستقبله السياسي مرتبط باستمرار "العلاقة" مع هؤلاء الخصوم. حينها اتهم حلفاءه بالوشاية، والإيقاع به. حينها وصل إلى حدّ التفكير بإخراج "القوات اللبنانية" من حكومته بعد عودته عن الإستقالة. حدثت نقاشات عديدة حول تراجع رئيس الحكومة عن استقالته، التي رفضها رئيس الجمهورية. وقتها، عاد الكلام حول الصلاحيات (الدستورية)، التي ساهمت "أزمة" الحريري في الإمعان بها. ثم تجدد الصراع حولها خلال مفاوضات تشكيل حكومته الثالثة. لكن ما كان يريده هو، لا يرتبط برمزيات وثوابت، بل بمبدأ "الضرورات تبيح المحظورات": الإستمرارية في الحكم. هذا أهم من النقاش في جنس الملائكة وفي كيفية إدارة هذا الحكم.

 

اقتناص الفرص

شاءت الأقدار أن تصادف الذكرى السنوية الأولى لاستقالة الحريري، وما تخللها من إلتباسات، مع استمرارمشاورات تشكيل حكومته الجديدة. وأهم دلالةً، تزامنها مع إقالة المستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني من منصبه، وهو المتهم بالضغط على الحريري والإساءة إليه، وإملاء بيان الإستقالة عليه. قد تكون وظيفة الزمن والصدفة، الإنتقام لما تعرض له الرجل، الذي تغيّر كثيراً، وتغيّرت ظروفه. فبعد سنة على "تواريه" في المملكة، وتدخّل الفرنسيين لتأمين خروجه وتوفير عودته عن إستقالته، زار السعودية زيارة الفاتحين، جلس إلى جانب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي مازحه بأن وجوده في الرياض ليس خطفاً، فردّ برفع يده بملء إرادته وكامل حرّيته.

 

أصبح الحريري أكثر حرّية ورحابة في حركته السياسية. يستفيد من اللعب على التناقضات ويجيدها، طالما أن الفرص تصله الواحدة تلو الأخرى. هذه الفرص بالنسبة إليه قد تبدو أهم من بعض الثوابت الرمزية سياسياً ودستورياً. فالغاية تبرّر الوسيلة، وبلوغ المبتغى يبرر الصمت هنا أو التغاضي هناك. عمل على تحويل نقطة ضعفه خارجياً إلى نقطة قوة في الداخل، تحرّره من أي اعتبارات مع حلفائه للمضي بتشكيل الحكومة. الدليل الأوضح هو ما جرى مع القوات اللبنانية بعد عودته من السعودية، وإجبارها على الدخول في التسوية الحكومية. لكن صلابة عوده بوضع الشروط والمهل الزمنية أمام القوات، لم تنطبق على التيار الوطني الحر أو حزب الله، وحتى أنها قد لا تنطبق على سنّة الثامن من آذار، الذين لم يضع أمامهم مهلة زمنية لإعلان قراره بترسيم حكومته الموعودة.

 

صفر مشاكل! 

"النيو لوك" الذي أراد الحريري اعتماره، انطلق من فكرة تصفير المشاكل، وكسب الحلفاء لا الأعداء أو الخصوم. يريد البقاء على علاقته مع وليد جنبلاط، ولكن ليس على حساب طلال إرسلان. وهو يستمر في التحالف مع التيار الوطني الحرّ كما بإبقاء العلاقة جيدة مع القوات. التفاهم كامل مع حركة أمل والتنسيق مستمر ودائم مع حزب الله. جعل نفسه حاجة لكل الأفرقاء، بشرط أن لا يقترب أحد منهم إلى ساحته الداخلية، حكومياً على الأقل، بعد أن صدمه قانون الإنتخاب، وما أفرزه من نتائج أدت إلى ظهور كتلة سنّية خارجة عن تياره. بهذا المعنى، هو يدعم منطق الثنائيات لدى القوى المختلفة، لكنه يريد إثبات نفسه وحيداً في الساحة السنية، ولا بديل عنه.

 

منطق الثنائيات نفسه طبّقه الحريري في المشاورات الحكومية. كان يضع الكرة في ملعب المتنافسين داخل كل "جماعة". يدفعهم إلى حل إشكالاتهم ونزاعاتهم والعودة إليه متفاهمين. هذا الدور بالنسبة إليه، أفضل من دور المرجع أو المقرر، الذي قد يبتلي بالعداوات وحده ويتلقى سهام النقد بمفرده. وكما انتهز فرصة سعودية لحشر القوات، انتهز فرصة أخرى لتثبيت وزارة الصحة لحزب الله، ما دفع الأميركيين إلى إيصال رسالة تحذيرية بأنهم بحلّ من أي اتفاق، طالما أن الحريري لم يتسجب لمطالبهم (شروطهم)، ولم يأبه للتهديدات بوقف المساعدات للوزارات التي سيتسلّمها حزب الله.

 

ما تغيّر في سعد الحريري خلال السنة الفائتة، يفوق كل ما اكتنزه طوال مسيرته السياسية. ويمكن اختصاره بأنه يفضّل الداخل على الخارج، الذي لا يمكن ائتمان الجنب له. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024