الحريري الذي أعدم خياراتنا

يوسف بزي

الأربعاء 2019/10/02

كان اعتراضنا على سياسات رفيق الحريري في التسعينات، هو خيارنا الطبيعي والبديهي، أي أن نستأنف حياة سياسية ديموقراطية تخلصاً من الحرب وأحزابها وميليشياتها. منحنا رفيق الحريري فرصة أن يكون سلطة، ونكون نحن مواطنين و"رأياً عاماً".

انتقلنا مع رفيق الحريري من لغة المتاريس القاتلة إلى لغة "الإعمار" وسجالاته. هذا ما منحنا فضاء عاماً نتدرب فيه على مدنية جديدة، واهتمامات جديدة، والانهماك بما هو سعي البشر اليومي ونوازعهم و"سياستهم".. أي أن نعود هكذا، ندبّر اجتماعنا وبلدنا وعيشنا، ونذهب إلى انتخابات بلدية ونيابية وننتسب إلى نقابات وجمعيات ونتظاهر من أجل مطلب، أو ننشغل بأعمال ووظائف وتأمين مسكن لائق وحياة رغيدة لنا ولأبنائنا..

كان هذا طموحاً مشتركاً لنا ولرفيق الحريري في تصوره وتصورنا لهذا البلد الذي نعيش فيه. نلتقي ونتعارض كما ينبغي أن تكون شؤوننا العامة. انحزنا إليه ليس تأييداً ومبايعة، إنما ضد "الاقتراح الآخر" الذي يقدمه الطغاة الصغار والقتلة والطاعنون في السلاح وفي تأبيد الحروب الأهلية المقنّعة والسافرة. اخترنا رفيق الحريري لا بشخصه وخططه ومشاريعه هو، لكن لنكسب أنفسنا ونستعيد شيئاً من عادية المواطنة وبداهة السلم.

في شباط 2005، كانت فاجعتنا ليست فقط في الاغتيال نفسه. بل في يقيننا أن القتلة يريدون أن يسلبوا منا الحياة التي اخترناها والسياسة التي اعتنقناها والاقتصاد الذي اردناه والسلم الذي طلبناه. كان يقيننا أن المجرمين يغتالوننا نحن ويقتلون بلدنا نحن.

ارتضينا حينذاك هذا "التوريث" المستعجل نكاية بالاغتيال، ورفضاً للموت. ارتضينا سعد الحريري وأسرته كلها، كي لا يأسرنا "محور الاستبداد والسلاح". لم تكن خياراتنا كثيرة أمام هول المتفجرات وما تلاها من اغتيالات لئيمة موغلة في كراهيتها وشرها.

لم يكن لدينا خيار ولم نقبل أو نستسلم لليأس. بل منحنا رفيق الحريري بعد مقتله قوة رمزية، ربما أكبر مما هو عليه في الحقيقة، وأنطنا بسعد الحريري أن يتلبس هذا الدور وأن يجسد تلك القوة الرمزية. "اخترعنا" زعامته بكثير من المكابرة الفادحة، تحاشياً لمصائر أسوأ وخيارات أردأ.

كانت هذه حيلتنا في ربيع 2005 كي نقنع أنفسنا أن ما ابتدأناه مع رفيق الحريري سيستمر مع ابنه، من أجل أن لا ننسحب إلى متاريس الطوائف مجدداً أو نذهب إلى تيارات سلفية هنا وأصولية هناك، أو نسلم بلدنا إلى بشار الأسد وعصابته أو لولاية الفقيه ووكلائها أو لميليشيات داعشية وقاعدية وبعثية و"حراس أرز" العنصرية والتعصب أو لتيارات حروب الإلغاء أو لزعماء الفساد خرّيجي علي مملوك وغازي كنعان ورستم غزالي..

ربما هذا خطأنا الأصلي أن نعتقد أن سعد الحريري (السياسة والشخص) بمستطاعه تنكّب كل هذا الطموح.

رحنا نجد في هزائمه المتكررة، وفي انكساراته وهفواته وأخطائه، فضيلة "الضعف" البشري إزاء هؤلاء المعصومين الأقوياء المتألهين الطغاة والمنتصرين دوماً وأبداً. رحنا نغفر له سقطاته باعتبارها تعبيراً عن هشاشتنا الأصلية.

لم ننتبه أن ركام خيباتنا منه صارت أثقل من أن نتحملها. وصرنا ننوء بحمل كل هذا الفشل المتواتر. بات سعد الحريري "فضيحتنا" إذ يكشف عجزنا وهزيمتنا وبؤس خياراتنا. وصرنا نخاف أن نخسره كي لا يظهر إفلاسنا التام.

وخطيئتنا هنا، أننا فعلنا أسوأ وأكثر ما نكرهه في أعدائنا ونقضائنا الذين يختزلون أمة أو بلداً أو "مستقبلاً" في شخص واحد مؤبد.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024