ندى البستاني: كينونة المستشارة وحظها

يوسف بزي

الأربعاء 2019/04/10

أسرع المستشار الأسبق والوزير السابق، سيزار أبي خليل، فور إقرار مجلس الوزراء خطة الكهرباء، للتصريح أنها كانت خطته أصلاً، كأنه يقضم بعضاً من "فضل" المستشارة السابقة والوزيرة الحالية، ندى البستاني، فيحاصصها نصرها السياسي الأول. لكنهما معاً في مناسبات مختلفة، يُرجعان الخطة ورسمها وإقرارها إلى الوزير الأول، جبران باسيل، الآتي بهما إلى طاقمه ورافعهما من منصب المستشارية إلى سدة الوزارة، تناوباً ووراثة.

طبقة المستشارين
وعلى مثال أبي خليل والبستاني، عرفت الدولة اللبنانية في العقود الثلاثة المنصرمة، صعود فئة جديدة من السياسيين، على نحو مخالف للتقليد. أي لم يتدرجوا من الوجاهة المحلية والبلدية إلى "النضال" الميداني الحزبي والمباشر، وما يرافقه من نشاط إعلامي، وصولاً إلى النيابة وغيرها. ولم يأتوا من عائلات سياسية أو من أسرة ملاكين كبار، ولا هم من الأثرياء أصحاب النفوذ. إنما هم من لدن سياسي واجتماعي وثقافي مغاير. وهؤلاء هم طبقة المستشارين. وقد كان الرئيس المغدور رفيق الحريري هو أول من أولى لهذه "الوظيفة" أهميتها، فأكثر من حاملي هذه الصفة، ومهد لهم أدواراً سياسية متعاظمة، في المؤسسات العامة وفي الوزارات، وجعل "المستشارية" باباً جديداً للصعود السياسي، ولتبوء المشهد العام، كما في صنع القرارات ووضع الخطط وصوغ العلاقات وإدارة الملفات الكثيرة. وتوزع المستشارون على اختصاصات متباينة، كأن يكون واحدهم مستشاراً خاصاً للعلاقة بحزب الله مثلاً، وآخر لشؤون الصحة.. إلخ.

وكانت قدرة الحريري الأب الهائلة على الإلمام والمتابعة بما لا يُعد ولا يُحصى من شؤون البلاد اليومية، مردها لا إلى طاقته وفطنته وحسب، لكن إلى ضخامة جهازه الاستشاري. وهو وجد في هذا الجهاز ضالته، لتكوين "حكومة ظل"، طالما أنه في لحظة وصوله إلى السلطة اكتشف أن الإدارة اللبنانية الرسمية وجسمها البيروقراطي وطرائق عملها وإيقاعها لم تتجدد فعلياً منذ الستينات، بما لا يتناسب على الإطلاق مع ورشة مشروعه.

تحول أسلوب الحريري إلى تقليد يحذو حذوه كل من يأتي إلى السلطة أو يمارس بعض مهامها. ولذا، تضخمت أعداد المستشارين وتثبتت أهميتهم كجزء لا يتجزأ من آليات مزاولة الحكم والسياسة. وبمعنى آخر، تحول لقب "المستشار" إلى مهنة راسخة ووظيفة مجزية ولقب مرصّع بالامتيازات.

ويتصف المستشار عادة بركونه خلف الستارة، وكتم الأسرار، والهمس بالأفكار وتقليبها، وتنفيذ مهمات غير علنية. وأخلاق المستشار قد تتشبه بأخلاق المحامي أو الطبيب الشخصي، فلا ولاء سوى لمهارته الوظيفية من ناحية ولـ"زبونه" من ناحية أخرى. كما يلعب الحظ أو الصدفة، إلى جانب المؤهلات العلمية وبراعة الحضور (presentation)، في نيل واحدهم هذا العمل واحترافه.

الإزاحة والصعود
وفي خضم لهفة "التيار الوطني الحر" إلى إزالة عصر الحريري الأب وتهفيت إرثه، والانعطاف نحو "بداية" جديدة للبنان آخر، على صورة يتخيلها أنصار التيار بأنها "استعادة الدور المسيحي". وهي عبارة تتضمن معنى تعريف لبنان وطناً قومياً لمسيحيي الشرق يحتضن أقليات أخرى ("خائفة" طبعاً)، تتسرمد فيه الغلبة لهم. ويشكل شعار "الإصلاح" مبتدأ عملهم كشعب مختار يحتكر وحده جدارة بناء الدولة الحديثة، طالما أنهم يعتنقون أيضاً استثنائية جدارتهم بـ"الحداثة" إزاء المسلمين خصوصاً. وهذا يؤدي بداهة إلى "الحق الطبيعي" في احتكار الثروة، والسيطرة على المقدرات... في هذا الخضم، اندفع رأس حربة "التيار" جبران باسيل إلى "نسخ" الحريرية ومسخها، فأزاح أولئك التقليديين وأصحاب عمه وجيل المناضلين والحزبيين، وقدم جيلاً آخر من قماشة المستشارين، الذين يأتون السياسة بوصفها سكرتاريا وحسب.

والشابة ندى البستاني (مواليد 1983)، التي تكوّن وعيها مع مطلع القرن الواحد والعشرين، طالبة علوم الاقتصاد في الجامعة اليسوعية، يتم تعريفها الأولي كـ"ناشطة في التيار الوطني الحر" من غير تعيين زمن ابتداء هذا النشاط، فهل تحمل ذاكرتها حادثة 7 آب 2001 مثلاً، أي حين كان عمرها 18 عاماً؟ المؤكد هنا أنها متأخرة عن الجيل "العوني" الأول. ولذا، فإن بروزها بسرعة قياسية في التيار ثم في مناصبها الرسمية أشبه بالإعجاز. فهي ابتدأت "مستشارة" في سن السابعة والعشرين من عمرها، ما يجوز التخمين أنها فاقدة لأي خبرة حينها، رغم القول أنها حاصلة على شهادة دراسات عليا في الإدارة من المدرسة العليا للتجارة في باريس، والإشارة إلى أنها "عملت أربع سنوات في الاستراتيجيات المالية والعملية لإعادة هيكلة عدد من الشركات الدولية" (على الأرجح ما بين سن 23 و26 عاماً). لكن هكذا توصيف بالغ السطوة والتفخيم لما قد يكون عملاً تدريبياً لطالب دراسات عليا، هو من سمات تعريف "المستشارين" ولغتهم، وطريقة في الدلالة على أنفسهم تمايزاً عن العامة من ناحية وعن السياسيين من ناحية أخرى، أو هي هوية انفرادهم عن الأهل واستقلالهم بسيرة "نجاح" من صنع مواهبهم واجتهادهم.

الابتسامة الواسعة
ولا عتب على ندى البستاني، لصغر سنها طبعاً، خلو سيرتها من أعمال منجزة، أو حوادث معلومة، أو أخبار دالة، إلا إيمان جبران باسيل بها. فالبستاني تنتمي إلى طاقم باسيل، وهذا كان كافياً لحمل حقيبة وزارة الطاقة، طالما أن الوزارات حصص حزبية توزع على الخُلص والموثوقين من الأصحاب والمستشارين واللصيقين والمؤتمنين على ثقة رئيسهم، الذين يفهمون إيماءاته وهمساته وسكناته.

وفي المرات القليلة التي أظهرت فيها البستاني نفسها كلاماً وتصريحاً، بانت عن زهو خاص بذاتها، وإيماناً بما هي عليه. الابتسامة الساحرة والواسعة، على حافة الضحك في وجهها، تطغى على تلك القسوة الخبيئة فيها التي اشتكى منها مفاوضوها من وكلاء الشركات. وكلامها كله مصدره تلك الثقافة التي تميز موظفي الشركات التجارية والمالية، ونظرتهم إلى العالم حيث يسود المتفوقون، المرهفو الأناقة والمستقرون على سيرة خالية من الاضطراب. وهؤلاء يكنّون تذمراً دائماً من الأنظمة الحكومية ومسالكها المعقدة وقيودها القانونية والبيروقراطية، ويتلهجون بعبارة أثيرة هي "الفعالية". فيكون العمل أشبه برياضة روحية، أو الواجب الديني والهوس الشخصي. وهؤلاء أيضاً، يمقتون الفساد التقليدي: الاختلاس، السمسرة، الرشى، المحسوبية، الزبائنية، التنفيعات..إلخ، ذلك أنه عديم المخيلة ولا أخلاقي. في حين أن فسادهم لا يسمى كذلك، لأنه قانوني وأخلاقي وبيزنس وربح وحسن تدبير وبدل أتعاب. فسادهم هو أعمق، لأنه عبارة عن نظام اقتصادي، نادراً ما يلتفت للنزعة الوطنية الاجتماعية ومسائلها في العدالة والرعاية والتكافل. وإذا اقترن هذا كله بعقيدة سياسية ملتهبة بمشاعرها الطائفية، وخرافاتها التاريخية، كالتيار الوطني الحر، حقّ لنا الفزع والتهيب.

وهكذا صفات تحملها "الشابة" من أتباع جبران باسيل، تأتي بها إلى السلطة، كما اختبرناها (مع نخبة المستشارين) في العقود الثلاثة المنصرمة، غالباً ما أدت إلى فتك بالغ القسوة بضعاف المجتمع، وإلى الحط من شأن الإدارة الرسمية، وتمكين "الأعمال الخاصة" وتجاراتها من الدولة ومرافقها.. عدا عن خصخصة السياسة كلها وتسليمها إلى تكنوقراط أعمى يظن الفساد إصلاحاً. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024