منير الربيع
وفيما أعلن اللبنانيون فشل مسعى بومبيو، تأتي زيارة وزيري خارجية اليونان وقبرص، وبعدها زيارة الرئيس اليوناني ولقائه رئيس الجمهورية، مؤشراً لافتاً على العلاقات ونوعية التنسيق بين لبنان وهاتين الدولتين، لا سيما أن أساس اللقاءات يتركز على البحث في ملف النفط والغاز. وكان باسيل واضحاً حين قال: "أضعنا فرصاً ووقتاً، ولا مجال لأي خسائر إضافية. وسنسعى إلى تعزيز تعاوننا مع قبرص، وصولا إلى حلف نفطي وغازي كما نأمل". بدوره، أكد وزير الخارجية القبرصي أن "قبرص لن تشارك في أي عمل يخرق السيادة اللبنانية". وشدد على أن "قبرص ماضية بدعم لبنان في مواجهة التحديات، وخصوصاً في موضوع اللاجئين السوريين. وسنقف إلى جانبكم".
اتفاقية السنيورة
أما رئيس الجمهورية ميشال عون، فأكد أن "للبنان الحق باستخراج النفط والغاز ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة، وشددتُ على رفض الانضمام إلى أي منتدى أو آلية تعاون تشارك فيها إسرائيل، لا سيما منتدى غاز شرق المتوسط". موقف عون لافت، لجهة رفض أي تنسيق مباشر أو غير مباشر مع الإسرائيليين. ولكن بالعودة إلى أرض الواقع، فإن اليونان وقبرص يرتبطان باتفاقية واضحة مع الإسرائيليين. وأي خطوة للبنان في هذا الصدد، لا بد أن تحصل بعد توافق معين، وبالإستناد إلى جهة تحكيمية دولية، للترسيم مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كان لبنان قد استبق عمليات الترسيم القبرصية الإسرائيلية، وأبرم اتفاقاً مع قبرص في العام 2006، أيام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ووقعت الاتفاقية في العام 2007. وحينها ألزم لبنان قبرص بعدم إجرائها لأي ترسيم للحدود البحرية والاقتصادية، مع العدو الإسرائيلي، من دون توافق مع لبنان. والمادة الثالثة من تلك الاتفاقية تنص على أنه: "إذا دخل أي طرف من الطرفين في مفاوضات، تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الآخر والتشاور معه قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلق التحديد بإحداثيات النقطتين 1 أو 6".
يومها كان لبنان يعيش انقساماً سياسياً. وفيما كان المطروح مبدأ ترسيم أو تحديد الحدود، بين لبنان والأراضي الفلسطينية، وبين لبنان وسوريا، كان الفريق المحسوب على قوى 8 آذار يرفض ذلك الترسيم، فاضطر لبنان إلى ترسيم الحدود البحرية مع قبرص فقط. وبعد ذلك الاتفاق، دخلت قبرص في مفاوضات الترسيم مع الإسرائيليين. واستمرّت المفاوضات بينهما طوال عامي 2010 و2011. حينها كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وحسب المعلومات فإن الجهات القبرصية المعنية، حاولت التواصل مع الخارجية اللبنانية آنذاك، لكنها لم تلق أي استجابة. فذهبت إلى الترسيم من خارج نص المادة الثالثة في الاتفاقية المعقودة أيام السنيورة. وهذا أدى إلى ثغرة أساسية، استطاع الإسرائيليون التسلل منها لقضم حقوق لبنان وحدوده.
النقاط المؤقتة وخط هوف
في اتفاقية الترسيم مع قبرص، لجأ لبنان إلى نقاط مؤقتة جرى الترسيم فيها، ومعنى النقاط المؤقتة هنا، أن لبنان أراد تجنّب الذهاب إلى أقصى الحدود البحرية الجنوبية أو الشمال، وبقي بعيداً عن مناطق التماس مع المناطق المحتلة جنوباً أو غير المرسّمة شمالاً مع سوريا، واعتبر لبنان أنه لا يمكن الترسيم في تلك المناطق المحاذية قبل إيجاد رعاية أممية لعملية الترسيم هذه. وبما أن الحكومة في العام 2011، لم تستجب للمطالب القبرصية، وبعد ذهاب قبرص إلى الترسيم مع الإسرائيليين، اعتبر الإسرائيليون أن النقاط التي لم يقرب لبنان من ترسيمها هي نقاط إسرائيلية، وجرى الترسيم على هذا الواقع، الذي يمنح إسرائيل حصة في البلوك رقم 9 مثلاً، وفي أماكن أخرى. وعلى هذا الأساس، ولد خطّ هوف الذي يقسّم المخزون النفطي 60 بالمئة لصالح لبنان و40 لصالح العدو الإسرائيلي. لكن لبنان يومها تقدّم بشكوى إلى مجلس الأمن، حول هذا الاعتداء الإسرائيلي.
استحقاق الترسيم الداهم
إذاً، ليست صدفة أن تتحرك المفاوضات بين لبنان وقبرص حالياً، ومشاركة اليونان أيضاً، لأن أساس ما يجري في هذه المرحلة، هو ترتيب الاتفاقات على خطوط النفط ما بين هذه الدول. ولا بد للبنان من ترسيم الحدود، لضمان أمن عمليات التنقيب. وتأتي اللقاءات بعد إقرار لبنان دورة التراخيص الثانية، للتنقيب عن النفط في البلوكات 1، 2، 5، 8 و10. وهذه ستكون مرتبطة بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص وفي الشمال مع سوريا. وحسب المعلومات، فإن لبنان قد حصل على ضمانات روسية بما يخص البلوكات الشمالية، ما قد يسّهل عملية الترسيم، طالما أن روسيا تسيطر على الساحل السوري.
يعرف اللبنانيون، أنه لا يمكن إنجاز ترسيم الحدود البحرية في الجنوب من دون رعاية دولية، تجد حلّاً للإشتباك مع العدو الإسرائيل.، ولذلك، يراهن لبنان على دور روسي وآخر أوروبي، كما يريد التعاون مع قبرص واليونان في هذا المجال. وترجح بعض المعطيات الخارجية، أن مسار ترسيم الحدود في لبنان سيكون جزءاً أساسياً من قضايا المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد القرار الأميركي بشأن الجولان. وسيكون هذا المسار محكوماً بالتنسيق بين روسيا والولايات المتحدة. أو هذا ما يراهن عليه لبنان بقوة، كما تبين في دعوة وزير الخارجية جبران باسيل الشركات الاميركية للمشاركة بمناقصات التنقيب عن النفط إلى جانب الشركات الروسية.
قضية اللاجئين أيضاً
يبدو أن ملف ترسيم الحدود وخطوط الغاز يرتبط مباشرة أو مداورة بملف اللاجئين أيضاً. فهناك رؤية دولية تنظر إلى الملفين كموضوعين مرتبطين ببعضهما البعض. هذا ما دلت عليه المباحثات بين المسؤوليين اللبنانيين ونظرائهم اليونانيين والقبارصة. إذ كان التركيز على ضرورة مساعدة لبنان بملف اللجوء. وكان باسيل واضحاً حين اعتبر أن لبنان لن يكون قادراً أن يبقى "سداً منيعاً بوجه تسرّب اللاجئين إلى أوروبا". هذا المنطق يفرض اهتماماً أوروبياً بالوضع اللبناني، عبر تقديم المساعدات أو بالحفاظ على الاستقرار. الحرص الأوروبي على الاستقرار منبعه الخوف من دفع الثمن بأنفسهم، إذا ما حدث تسرّب جماعي للاجئين. وباسيل يعرف جداً كيفية اتخاذ مواقفه، المتلائمة مع هذا المسار، من ترسيم الحدود إلى ملف اللاجئين، والتخوف من تغيير ديموغرافي، وحماية أوروبا أو ابتزازها. وهذا كلّه من وحي "مناورات" باسيل تحت سقف "التحالف المشرقي"، أو وفق معتقد "حماية روسيا للأقليات".