أسباب هوس باسيل في مطاردته الحريري

محمد أبي سمرا

الأحد 2021/05/02
يبدو جبران باسيل الأنشط والأشد قلقاً وإقبالاً على الحركة والأحلام والكلام بين أهل السياسة ورؤساء الجماعات السياسية والكتل النيابية في لبنان اليوم. وكأنه كتلة لولبية من النشاط لا تكل ولا تهدأ. وقياساً بحسن نصرالله -الذي لا نعلم، وليس من حقنا أصلاً أن نعلم، لماذا عزف منذ أكثر من شهرين عن إطلالاته التلفزيونية المطولة، أو قلّل منها وباعد كثيراً بينها، وترك المشاهدين والمستمعين التلفزيونيين وناقلي خطبه ومواقفه والمعلقين عليها، في حالٍ من الانتظار والحيرة والضياع- يبدو أن باسيل أخذ على عاتقه ولحسابه أن يملأ الفراغ في إطلالاته التلفزيونية الأسبوعية تقريباً، وفي جلوسه بمكتبه متكلماً منفرداً في الشؤون اللبنانية. أما إذا لم يجلس جلسته الأسبوعية ويتكلم، فغالباً ما يدعو إلى اجتماع الهيئة السياسية في تياره، ويصدر بيانات، خشية أن تفقد الحياة السياسية اللبنانية حيويتها ومعناها ووجهتها، وتضيّع بوصلتها، وتدبُّ في الغموض العظيم.

والحق أن أقطاب السياسة اللبنانية -مثل نبيه برّي ووليد جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري وسليمان فرنجية- يبدون صامتين أو مستنكفين، قياساً بتصدر جبران باسيل وعمه ميشال عون، وبغيبة حسن نصرالله في المدة الأخيرة. وكأنما نصرالله ترك السفينة اللبنانية وتخبطها في عهدة ميشال عون وصهره، لمناكفة سعد الحريري. ولربما أيقن الحريري أخيراً أن المناكفات والمساومات الداخلية في لبنان، بلا طائلٍ ولا جدوى منها لتلبية رغبته في تشكيل حكومة يترأسها. لذا حزم أمره وشغّل محركات طائرته، وراح يتنقل بين عواصم عربية ودولية، علّه يحقق رغبته.

وهذا ما أشعل قلق مناكفيه اللدودين، عون وباسيل، اللذين أيقنا أن المسرح الداخلي اللبناني الذي ملآه بالإطلالات التلفزيونية والتصريحات والاجتماعات والبيانات وبغارات القاضية غادة عون، غير مجدٍ وبلا طائل، ولن يقطع الطريق على الحريري الذي يطير من عاصمة إلى عاصمة. وبما أن عون ثقيل الهمة، وتكبله بروتوكولات الرئاسة، وعزفت عواصم عربية ودولية عن دعوته واستقباله، انبرى صهره باسيل إلى المهمة: اقتفاء أثر الحريري، منافسته ومطاردته و"القوطبة" عليه في أسفاره. لكن العقوبات الأميركية عليه تنغِّصه وتكبّل حركته غرباً وأوروبياً وعربياً أيضاً. وسرعان ما سقطت عليه كهدية لا تقدّر بثمن استقباله وزير خارجية هنغاريا، برهاناً على أنه غير معزول ولا منبوذ أوروبياً. هذا ما أشار إليه الوزير الهنغاري، فراح مستقبله جبران باسيل يغرِّد مزقزقاً فرحاً فرحةَ طيرٍ بطيرانه، على ما تغني الراحلة وردة الجزائرية.

لكن هيهات أن يهدأ جبران باسيل، ويهدّئ من روعه وقلقه استقباله وزيراً هنغارياً. وقد يكون جلس ليالٍ ساهراً يضرب أخماساً بأسداسٍ، متسائلاً: ماذا يخطّط الحريري، أين الحريري، إلى أين سيذهب بعدُ، إلى الصين، إلى بريطانيا؟! وربما راح فجراً يقول: إذا أردنا أن نعلم ماذا يدور في هنغاريا، علينا أن نعلم ماذا يحدث في باريس وبرلين ولندن. وقد يكون فكّر أن يذهب إلى الهند، لكنه انتبه إلى أن القارة الهندية يعصف فيها الوباء، ولا وقت لأحد هناك كي يستقبله ويسأله ماذا جاء يفعل وماذا يريد؟

وبين لحظة وأخرى لا بد أن تكون قد ومضت في باله دمشق أو طهران. لكنه قد يكون هدّأ روعه وقلقه قائلاً: فلأذهب إلى النبع أو المصب شرقاً: موسكو، موسكو. ومن هناك أغيظ من عاقبني ومنعني من السفر غرباً. ومن هناك أضاعف غيظ كل من أميركا وفرنسا وألمانيا وأكيدها كيداً عظيماً: أحيّي الانتخابات في سوريا الأسد الديموقراطية التوّاقة إلى تثبيت أسدها على عرشها، فيعيد لاجئيها إلى ديارهم، ويريح لبنان والمسيحيين ويريحني منهم. وينصرف اللبنانيون المفلسون إلى الاستثمار وجني الأرباح من إعمار سوريا، ومن حقول النفط والغاز في البحر، فيشفى لبنان وسوريا من إفلاسهما، وأحلُّ أنا مكان عمي في قصر بعبدا الجمهوري، كما حل الأسد الإبن مكان والده في قصر المهاجرين الدمشقي، ونفتح للشرق وأقلياته صفحة جديدة مباركة، فتتهافت عواصم الغرب طلباً لرضانا. وهكذا، قال باسيل من موسكو: "أعود أقوى ومنتصراً عندما تسقط العقوبات، وتكون في النهاية قد خدمتني ولم تضرني". ولكنه نسي أن يردد: وخدمت لبنان ولم تضره. وقد يكون باعثه على هذا النسيان هو يقينه أنه ولبنان واحد أحد لا تنفصم عراه ولا مصالحه.

ورب من يتساءل: من أين لجبران باسيل هذه الطاقة الجبارة على القلق الحركة والكلام؟ وهي طاقة لم يسبقه ويوازيه فيها سوى بضعة متكلمين مثله اختفوا أخيرًا عن الشاشات، واكتفوا بما قسمه لهم الدهر من هذيان ومكانة ومدخرات. لكن ما توفّر لمثيله وشبيهه من طاقة هذيانية على الكلام، ضئيل جداً ولا يقارن قط بما توفّر لباسيل: ثالوت مقدس يمدّه بطاقة لا تفنى ولا تأكلها النيران: وزارة الطاقة ومغارتها التي أمدّت لبنان بظلام مستدام. وعمه وعرابه ومعلمه المخلص ميشال عون. وورقة التفاهم مع حسن نصرالله. أما سعد الحريري -يفكر جبران باسيل- فقد ورث عن والده فقط ثروة تآكلتها النيران أخيراً. أما أنا فعصامي، وابن بالتبني السياسي لعصاميين مخلِّصين، وتمدني أحلامي بطاقة فولاذية لا مثيل لها، لا تخمد ولا تُضاهى.

نعم، قد يكون جبران باسيل الحالم الوحيد والأكبر، الذي تطوّح به أحلامه وتُسلِمُه إلى هستيريا لا تهدأ بين أقرانه من الطغمة السياسية اللبنانية المتعبة والمنهكة في هذا الخراب اللبناني العميم. لكن جبران باسيل تمنعه أحلامه الهستيرية العاصفة من أن يبصر خراباً في لبنان. فعمّه ومثاله وراعيه ومتبنيه الأول، بدأ حياته السياسية في الخراب، ويأبى أن ينهيها إلا في الخراب، ومن دون أن يبصر خراباً. فالمخلّصون والخلاصيون أمثاله، ليست مملكتهم على هذه الأرض، بل هم "سادة قافلة الوجود".

ولا عجب في أن نفيق بعد أيام لنسمع جبران باسيل يخاطبنا من الصين أو اليابان، ويعدنا بالخلاص.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024