أن نحلم بتدخل أممي

يوسف بزي

الخميس 2020/08/06

نحن رهائن، مقيّدون بتهديد الموت بأي وقت وأي مكان. ليس لدينا "الإرادة الحرة" على الإطلاق. ربما كنا كذلك أثناء الحرب، لكننا عملياً كنا حينها نعرف أين هي. نعرف مكامن الخطر، مواقع معاركها. كانت لدينا ملاجئنا وأماكننا الآمنة. وكنا حينها مقتنعين: ستنتهي لا بد.

اليوم، وهنا، مكبّلون ببلد مخطوف، وقد انتزعوا منا "حق تقرير المصير". نعيش حرباً لا نهائية، بالغة القسوة والوحشية والعماء. إنها حرب التخريب الشامل، اليومي، في كل ما يتصل بأسباب البقاء. تخريب عميق ولا أمل بإصلاحه. ذروة من العدمية والتلاشي لـ"الدولة". عجز كلي عن توفير الطمأنينة. انعدام أي شعور بالأمان. أجسادنا منهكة. أجهزتنا العصبية تالفة. عقولنا مشوشة. لا نضمن غذاءنا غداً، ولا دواءنا، ولا مالنا. لا حصانة لأرواحنا ولا لممتلكاتنا. مسلوبو الكرامة وعراة من أي حماية. محرومون من الاحترام والعدالة. إذلال بلا توقف. انتزاع خبيث وعنيد وبلا هوادة لأي أمل.. بشر بلا غد.

اللبنانيون فقدوا وطنهم من دون أن يغادروه. خسروا بلداً من غير هجرة. سكان محبوسون في أرض ممنوع عليها وممنوع عليهم أن يصيروا "كياناً" أو دولة. بل ممنوع لهذه الجغرافيا السائبة أن تكون وطناً.

هناك جريمة منظمة واسعة النطاق تحدث على امتداد سنوات: القضاء على الجمهورية اللبنانية كما عرفناها على امتداد قرن كامل. هناك فعل ممنهج وعنيف وعقائدي ومتعصب وعدواني لتغيير "الهوية" اللبنانية على نحو جذري. هناك سياسة شر، أفسدت وخربت الجسم اللبناني وسممته، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، على نحو مميت. تسميم للنفوس والعقول شوّه ومزّق بلداً بأكمله وحوله إلى كتلة فاسدة ومتحللة.

بمثابرة شيطانية تم الإجهاز على الاقتصاد. بتصميم وتخطيط كان تمزيق الدستور والقوانين. بتدبير شرس تلوثت الفضائل العامة وأسباب التحضّر والتمدّن. بعنف قاتل كان اغتيال من يعترض وكان الإرهاب المحترف قولاً وعملاً وأساليب لا عدّ لها. وكان الانتهاك والاستباحة لكل الحدود والبيوت والحرمات والمرافئ والمطار والإدارات وكل ما يسمى مؤسسات أو هيئات مادية أو معنوية.

دمّروا كل شيء.. وأخذونا رهائن. وما فعلوه أخيراً ببيروت ليس "حادثاً" ولا صدفة. إنه اغتيال للمدينة، اغتيال لـ"العمران" الذي لا يطيقونه. قتل متعمد لفكرة العاصمة وهويتها وتاريخها، بعدما أعدموا أدوارها ووظيفتها وصورتها، وحطموا روحها وسلبوا قلبها وصادروا وجهها..

إنها الجريمة الأخيرة التي تكلل حربهم. الجمهورية المحتضرة هي "انتصارهم" الأهم منذ العام 1982 وحتى الآن.    

أما نحن، الرهائن، المهانون والمحتقرون والمنتهكون.. نحن آخر المهزومين، الأحياء بالكاد، وإذ فقدنا كل أمل، لم يعد لدينا لا حزب ولا ثورة ولا نواب ولا أبطال ولا تظاهرة... نحن آخر الناجين نستغيث بيأس، نحلم ربما بتدخل أممي، بعملية إنقاذ دولية تنتشلنا من تحت الأنقاض. استغاثة من الصعب أن يلبيها أحد.

وبقاؤنا رهائن بين أيدي هذه العصبة الفاسدة والمجرمة، يعني أن موتنا وهلاكنا متحقق في كل لحظة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024