فجأة نبهنا ماكرون: السياسة ليست فنّ الإفساد في الأرض

محمد أبي سمرا

الجمعة 2020/09/04
تنطوي ليلة إيمانويل ماكرون ونهاره (الأول من أيلول) اللبنانيَين الطويلين على معانيَ ودلالات كثيرة. منها المأسوي، ومنها الفضائحي، ومنها المواسي والباعث على شيء من وعد وأمل "خطابيين" ووضعيين: احتمال إخراج لبنان واللبنانيين اليائسين (أي غير المنوّمين بعُظام تلك الانتصارات الخرافية) من محاق يأسهم وقنوطهم من بلدهم وحياتهم فيه، ومن حكامهم الذين صار صعباً العثور على صفات تناسبهم.

الفشل المديد
فرئيس فرنسا الذي أمضى ليلته ونهاره في ديارنا وربوع شقائنا، كانت سلطات بلاده قد رعت ولادة دولة لبنان الحديثة قبل مئة سنة. ثم تركت أهله، منذ 77 سنة، يديرون شؤونهم وشؤون دولتهم الوليدة بأنفسهم. لكنهم حاولوا قدر طاقتهم ومعرفتهم الضعيفتين والمشوّهتين أو الناقصتين، وفشلوا أخيراً هذا الفشل المريع الذي نتخبط فيه اليوم، وجاء ماكرون ليحاول وقفه، بعد بلوغه (الفشل) حافة هاوية، ربما أدرك الرئيس الفرنسي، بل أخافته عاقبة سقوطنا فيها.

ولم يراجع أحدٌ منا يوماً - إلا اليائسون وفي ما ندر - محطات هذا الفشل المديد وفصوله الكثيرة. فالمراجعة والتراجع ليس من شيمنا، نحن من نمشي منوّمين أو سادرين نحو الهاويات، ومزودين بحكمتنا القائلة: "الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا".  

فلبنان بعد سنين من الاستنزاف والنهب المنظم، وتعملق المنظمة العسكرية السرية الحديدية الإيرانية فيه، التي أكملت خنقه، ها قد صار ركاماً مجذوماً ينفر العالم منه ويشفق عليه.

بلاد التدلّه واليتم
ربما يشفقون عليه لأنه كان في حقبةٍ مضت وصارت سحيقة، مثار إعجاب العالم وعطفه. وذلك لتميُّزه عن محيطه بالتفتح والحيوية. وقد يكون تميزه ذاك، المنقضي والسحيق، هو ما حمل شطراً من العالم على رعاية هذا البلد الصغير، تدليله وتدليعه والتدلّه به، كأنه طفل صغير تعوّد على الرعاية والغنج والدلع والتدلّه، ويأبى الفطام وتجاوز مراهقته وبلوغ سن الرشد.

وإذا كان محيط لبنان المجاور واللصيق به، قد حسده على ما هو عليه وفيه، فقسا عليه قسوة الحقود واللئيم، وساهم مديداً في تأجيج حروبه وتدميره، فإن جواره الأبعد شُغِف وافتتن به، شغفه وافتنانه بصبية متحررة مغرورة بجمالها وفتنتها وزينتها.

لكن هذا كله فات عهده ومضى من زمان، وها تلك الصبية تبلغ سن اليأس وأرذل العمر، لكن من دون تجاوزها المراهقة، فظلت تتبرج وتتدلّه، ظانةًّ أن العالم يعشقها ويعشق غوايتها، ولن يتركها ويستغني عنها. لكنها عندما استيقظت أخيراً وفجأة من تدلّهها وتغاويها، فأبصرت في المرآة وجهها الكالح، راحت تصرخ وتستغيث، فلم يكترث أحد بصراخ استغاثاتها. بل إن العالم جعل يُنذِرها ويتوعّدها بالأسوأ، إذا لم تستجب نصائحه وتغير عاداتها وسلوكها، وتُصلِح ما أنزلته بنفسها من إهمال وفساد وكوارث، جراء دلعها وانعدام مسؤوليتها، حتى الانتحار الذاتي.

وها هي اليوم ملقاةٌ على طرف العالم كيتيم أشعث لا يكترث به أحد تقريباً.

إنقاذ لبنان من نفسه
وحدها السلطات الفرنسية التي كانت رعت ولادة لبنان الحديث، ربما استيقظ لديها شيء من حنين إلى ما كانت رعت ولادته. وهو حنين قد يمازجه شيء من المسؤولية والخوف والشفقة. لذا قرر الرئيس الفرنسي الشاب النشيط أن يمنح هذه البلاد وأهلها بعد عقوقهم - ويمنح نفسه أيضاً - فرصة أخيرة لإنقاذها وإنقاذ أهلها من أنفسهم. فجاء إليها وإليهم قبل شهر مستطلعاً كارثتها الأخيرة. ثم جاء مرة ثانية لليلةٍ ونهار، مقرراً رعايتها، ومحاولاً قدر مستطاعه وهمته ما يمكن إنقاذه منها ومن أهلها وحكامها الكالحين المتنابذين تنابذ الكواسر على جيفهٍ متحللة في غابة من الركام.

ولم يخف الرئيس الزائر دوره هذا الذي انتدب نفسه إليه. بل هو صارح أهل بلاد النكبات والركام بدوره وغايته. وقد يكون بالغ في تجاوز حدوده ومقدرته على تبنِّيهم وتبني حكامهم معاً. وبالغ أيضاً في وعده إياهم بإمكان تخليصهم من مآسيهم المتراكمة المزمنة. فقال لهم، كرر وأطنب القول، إنها فرصتهم الأخيرة، وإنه سوف يغيثهم ويوزع عليهم مساعدات إنسانية. ويسعى في جمع تبرعات من العالم لبلدهم المنكوب، إذا برهنوا له أنهم يرتدعون عما فعلوه بأنفسهم وأوصلهم إلى حافة الهاوية.

وقال لهم أنه وضع حكومتهم العتيدة المرتقبة، قواهم وأحزابهم السياسية وزعماءهم جميعاً، تحت رعايته ورقابته المشددة المباشرة. وهو أمهلهم مدة قصيرة محددة لتشكيل حكومتهم الجديدة. ووضع خطة أو برنامجاً محدداً ومدروساً قد يخرجهم من أزماتهم المدمرة. بل هدّدهم بالويل والثبور إذا لم يتقيدوا بتنفيذ خطته وبرنامجه. حتى أنه لن يتركهم لشأنهم ليتصرفوا ويسلكوا على جاري عاداتهم وأهوائهم.

أما ثقته بهم فلا تتجاوز ثقتهم هم بأنفسهم، وبأن يغيروا ما بأنفسهم. وهو قال إن "الثقة مشكلة الآخر". ومثل هذه العبارة ليست أقل من لغز يستحيل على معظم أهل لبنان فكَّ طلاسمه. ذلك لأن هذه العبارة من دروس فلسفة الأخلاق التي لا عهد لنا بها.

وأخيراً قال من شاء إنقاذ اللبنانيين من تيهم وضلالهم، إنه سوف يعود بنفسه إلى لبنان بعد شهرين أو ثلاثة، ليستطلع ويراقب ماذا فعلوا في غيابه وماذا يفعلون.

مبالغات ماكرون
من يدري؟ قد يكون الرئيس الفرنسي بالغ في حميّته واندفاعه وحيويته الاستعراضية الشابة في محطات زيارته وتنقلاته الكثيرة المكثفة والنشيطة. فهو ابن بلاد، ثقافة وحضارة، جعلت الإرادة والفاعلية والاختيار والاختبار والمسؤولية - أقله من حيث المبدأ والضمير الأخلاقي العمومي المتعارف والسائر - دينها وديدنها الفلسفي والعملي المحدث والجديد، ومنذ قرون.

وربما بالغ الرئيس الشاب في نسيانه أو تناسيه أنه هنا في لبنان، وليس في بلاده ولا يخاطب مواطنيها المتعودين على الصدوع إلى سنّة (عرف) متعارفة وراسخة في التخاطب والقول والفهم والتواصل. وفي تقليب الأمور والأشياء والأقوال وشؤون الحياة والأفعال الدنيا الوضعية، على وجوه كثيرة، غير تامةٍ ولا منزلة ولا منزّهة ولا مؤكدة.

وقد يكون نسيانه أو تناسيه هذان، ومعطوفان على قوله في الثقة، سبيله الممكن والوحيد لوضع اللبنانيين وحكامهم الميامين على جادة صوابٍ ما. وإلا كان عليه أن يخاطبهم على طريقة أولئك الحكام.

فضيحة الكلام/كلام الفضيحة
وهي طريقة ليست سوى صنو الفضيحة التي تعودها اللبنانيون لدى سماعهم حكامهم وسياسييهم وزعمائهم يتكلمون. يتكلمون؟! لا بل يعلكون تلك الكلمات القليلة الجوفاء الخشبية، كلما فتح أي منهم فمه وبادر إلى الكلام.

وقد تكون الفضيلة الأساسية لزيارة إيمانويل ماكرون الأخيرة لبنان، أنها نبهتنا إلى فضيحة حكام لبنان وسياسييه طوال تاريخه، فضيحة لا تقدر بثمن: عدم قدرة أي منهم على تشخيص حادثةٍ أو واقعةٍ أو وضع ما، صغير أو كبير، نافل أو مأسوي، إلا على نحو ما يستعمل الكلمات نصّابون ولصوص وكذبة وحواة محترفون.

وهي كلمات ليست بالكلمات أصلاً وفصلاً، بل تفاهات وترهات يعلكونها ويتقيأونها، بكل فخر واعتزاز، ليقولوا إنهم الآلهة والأنبياء والأطهار والمخلصون والعظماء الذين لم ولن يجود الزمان بمثلهم على هذه الأرض.

هل سمعتهم مرة سياسياً لبنانياً يلفظ كلمة أو عبارة تقول شيئاً يستوقف؟ كلمة أو عبارة غير ملتوية، غير معلوكة، غير خشبية، غير كاذبة، غير محرّضة، غير متزلفة، غير متنصِّلة، غير معسولة، غير مهدّدة، غير متعفنة؟!

فجأة نبهنا إيمانويل ماكرون بكلامه الوصفي المركب، بوقفاته، بحركاته البشرية المتوترة، بحيويته ونشاطه أن السياسة ليست فن الإفساد في الأرض. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024