المفتي والبطريرك وحسن نصرالله: لبنان ما قبل نشوئه

يوسف بزي

الثلاثاء 2020/12/22

يتفرج حزب الله بدم بارد على مشهد كان هو صانعه الأكبر: بلد متشظّ ينهشه فقر لم يعرفه منذ الحرب العالمية الأولى، ودولة فاشلة من الأكثر مديونية في العالم، وواقع وطني يفتقد إلى أي عقد جامع، ونظام سياسي عاطل عن العمل.

الحزب الديني الشديد الاعتداد بهويته المذهبية، ساهم علاوة على كل هذا في تحويل الطائفية السياسية إلى حقيقة وحيدة. بل وحوّلها إلى بداهة مكرّسة، ومصدر افتخار، بعدما كانت "عيباً" يداريه السياسيون الطائفيون. والأدهى، أن الحزب لا يتحرّج من الادعاء المستمر أنه ليس طائفياً، والاتهام المستمر وبنبرة احتقارية للآخرين أنهم طائفيون!

ومنذ تكريس "الفيتو" الشيعي، ضمن هرطقة الديموقراطية التوافقية، وما جلبته من بدع وفيتوات متبادلة، باتت السياسة اللبنانية وأهلها وأحزابها وقادتها أقل اعتباراً حتى بالقياس مع مجلس القبائل الأفغاني اللويا جيرغا. بل هي نكوص إلى ما قبل نظام الملل العثماني.

وعلى هذا، التأم النظام الحاكم والسائد اليوم بوصفه مجلس طوائف متكارهة ومتصارعة، وعديمة الثقة ببعضها البعض، و"متعايشة" على مضض وفق اختلال فاحش في ميزان القوى إزاء فائض قوة حزب السلاح. وانكشف هذا النظام على ملحمة من الكوارث وأكداس الفشل وأكوام الفساد (والنفايات والجريمة المنظمة..).

وأفضى الحال السيء والقنوط الوطني، إلى انشطار السكان –نظرياً- إلى قسمين. رعايا الطوائف بما هم أتباع أحزاب طائفية وزعماء ملل (زمنيين وروحيين، والاثنين معاً كحال حسن نصرالله)، يشهرون مذهبيتهم هوية أولى ووحيدة. ومواطنون لبنانيون إما على استعداد لتجاوز طائفيتهم أو إضمارها بهوية وطنية مركّبة، أو خارجون من طائفتهم وعليها.. وتحللوا منها.

ومن الواضح أن القسم الأول غالب ومعتصب ومتماسك، كلٌ في حصنه الأهلي-الطائفي، فيما القسم الثاني متبعثر بحكم كثرة الأهواء والمنازع وبداهة التنوع والتلون اللذين يطبعان أي اجتماع يعلي من شأن الفردية. وهو لهذا السبب، من جملة أسباب أخرى، يتسم بالهشاشة السياسية والضعف إزاء صلادة الجماعات وصلابة النظام الحاكم (شعبياً وانتخابياً). إضافة إلى الاستعداد للجوء إلى العنف كعامل سياسي حاسم  لعب دوره على أكمل وجه في إخماد الانتفاضة المدنية.

اليوم، لم يبق أي اقتراح لاستمرار الجمهورية سوى المزيد والمزيد من التطييف والمذهبة، إلى حد زوال الفاصل بين الزعامة الروحية والقيادة السياسية، كما بتنا نشهد في الأيام الأخيرة. فبعدما عجز الرؤساء ومن هم دونهم، نواباً وقادة وأحزاب عن إحراز أي خرق أو تسوية جزئية أو تأليف حكومة أو تدبير تفاهمات، رأينا بطاركة ومطارنة ومفتين ومشايخ يأخذون زمام الأمور على نحو مباشر وعلني.

وإذ لا ننسى الخطبة "التأسيسية" للمفتي الجعفري أحمد قبلان عن المارد الشيعي الذي لن يعود إلى القمقم، كمنطلق ما بعد هدم دستور الطائف، نضيف إليها مذكرة "الحياد الناشط" للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، كعقيدة سياسية للدولة، وكذلك إصرار المفتي عبداللطيف دريان في خطبه على لعب دور الحارس لاتفاق الطائف وصلاحيات رئاسة الحكومة وحصانتها.

بالطبع، كنا قد اعتدنا على مدى عقدين تصدّر حسن نصرالله ومعه شيوخ حزبيين كنعيم قاسم وهاشم صفي الدين وابراهيم أمين السيد.. وقيادتهم للحزب الأقوى والغالب في الحياة العامة كما في صوغ قرار لبنان ووجهته وترتيب إنتاج السلطة فيه.

والحال، أن البطريرك الراعي الذي صار مرجعاً في تأليف الحكومة والذود عن مقام رئاسة الجمهورية، والمفتي دريان الذي صار يقارع القضاء دفاعاً عن حسان دياب، ويمنح أو يمتنع عن إضفاء الشرعية على رئاسة الحكومة، والمفتي قبلان الذي لا يرضى بأقل من دور صياغة الدستور الجديد.. ناهيكم عن "مقام" حسن نصرالله الأشبه بولي فقيه مطلق السلطة.

ربما، كان صلف السياسيين وإفلاسهم وسوء سمعتهم وعجزهم الفاضح عن أي اتفاق في أي شأن مهما صغر، وفشلهم الذريع وأنانيتهم وفسادهم، وبالتالي مسؤوليتهم عن انهيار البلد وانحطاط حال سكانه، هو الدافع لأن "يضطر" الزعماء الروحيون للانغماس إلى هذا الحد في وحل السياسة ودهاليزها. وهم وإن كانوا غير مترفّعين عنها أصلاً، إلا أنهم اليوم أكثر تورطاً على نحو يكرس سلطة دينية تامة على دولة مفترض أنها جمهورية مدنية. 

هذا على الأقل يعيدنا إلى ما قبل عام 1920.. هذا ما نجح حزب الله (أولاً، وليس وحده) في إنجازه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024