جان عبيد "الرئيس" الذي لم يُنتخب

جنى الدهيبي

الإثنين 2021/02/08

قبيل الانتخابات النيابية في العام 2018، اتصل بي لأول مرّة جان عبيد سائلًا بلباقةٍ متناهية: "ما رأيك أن نلتقي لنتحاور سويًا ونتحدث عن طرابلس أيضًا؟".
على مدار ثلاثة لقاءات متتالية، كان أولها في مكتبه ببيروت، ثم لقاءان آخران بقصره في جبل تربل، أتذكر أنني في كل مرّة كنت أخرج بانطباعٍ لا أجد فيه تبريرًا لترشحه للانتخابات النيابية.  

بين أكداس الكتب
فهذا الرجل الذي عاش حياته السياسية مرشحًا دائمًا ومحتملًا لرئاسة الجمهورية، لم يتقن يومًا "فنّ" خوض الانتخابات البرلمانية على الطريقة اللبنانية، بشعبويتها وشعاراتها ومعاركها وحساباتها الداخلية الضيقة. كانت النيابة جسرًا لا بدّ من عبوره، أو ممراً إجبارياً قد يضمن من خلاله عبيد وصوله إلى قصر بعبدا.  

وعلى مدار أربع مرات، استطاع عبيد أن يفوز بالمقعد الماروني في طرابلس، بانتخابات 1992 و1996 و2000 و2018. وحين ترشح في العام 2009 منفردًا، خسر مقعد طرابلس. كما سبق أن عُيّن نائبًا عن الشوف في مقعد كميل شمعون، من بين 40 آخرين في العام 1991، لملء شغور المجلس النيابي.  

لم يكترث عبيد يومًا للأصوات التي كانت تعتبر أنه "احتكر" المقعد الماروني الوحيد في طرابلس. في أول لقاءٍ معه، بدأ حديثه متباهيًا بنشأته في هذه المدينة الشمالية، التي قضى فيها طفولته، فعاش في منطقة القبة نحو عقدين من الزمن، وتعلم في مدارسها المجانية وتنقل بين ارسالياتها من الفرير إلى الآباء الكرمليين. وأتذكر ما قاله لي حينها: "أعرف طرابلس أكثر من طرابلسيين أصليين كثر، وذاكرتي تعجّ بيوميات قضيتها في أزقة هذه المدينة وشوارعها". ولعل أبرز المآخذ على عبيد في طرابلس التي كان نائبها، هو تغاضيه عن ملف "مطمر النفايات" الذي تديره شمالًا شركة لافاجيت، المملوكة من أولاد شقيقته آل أزعور، من بينهم الوزير السابق جهاد أزعور.  

ومن داخل مكتبه الذي تزدحم فيه الكتب والمجلدات فوق بعضها البعض، كان يجلس عبيد على كنبته في زاويته المفضلة كما عرّف عنها، وبدأ يروي حكايات تضمر تجربةً فريدة، وتعكس إلمامًا واسعًا بالأديان والثقافة والسياسة والعلاقات الدولية والمحلية، ولا يتوانى عن الاستشهاد بآيةٍ قرآنية من هنا وبيتٍ شعر من هناك لسيف الدولة الحمداني والمتنبي. سألته عن ذوقه الشعري، فعبّر (مجاملةً ربما) عن انفتاحه على الشعر الحديث، "لكنه لا يوازي الشعر القديم ببلاغته اللغوية".  

رصيد الصداقات
توفي جان عبيد (1939 - 2021) صباح اليوم عن عمرٍ يناهز 82 عامًا، متأثرًا بإصابته بكورونا، الذي هزم كل جهوده وحرصه على صحة جيدة لعمرٍ مديدٍ. لم يتمنَ حتمًا أن يرحل قبل أن يصبح رئيسًا للجهمورية. وهو متزوج من السيدة لبنى البستاني ابنة قائد الجيش إميل البستاني، ولهما خمسة اولاد.  

وعبيد الذي دخل عالم السياسة من بوابة الصحافة، تمددت علاقاته المحلية والعربية والدولية كالاخطبوط، فكان دبلوماسيًا يتقن فن حياكة الصداقات لتطال مروحتها التناقضات التي تباهى بجمعها. فكان صديقًا مقربًا لحافظ الأسد ونظامه، من دون أن تحقق "سوريا الأسد" حلم عبيد بالوصول إلى بعبدا. لكن هذه العلاقة جعلته مستشارًا للشؤون السورية في عهدي الياس سركيس وأمين الجميل. كما كان جان عبيد صديقًا لصدام حسين وكميل شمعون ورشيد وعمر كرامي وكمال ووليد جنبلاط وموسى الصدر وسليمان فرنجية الجد والحفيد، ويروي كثيرًا عن صداقته بياسر عرفات وجورج بوش، بينما بقيت صداقته التاريخية حتى قبل وفاته مع الرئيس نبيه برّي، الذي لم تسعفه الظروف أيضًا برؤية عبيد رئيسًا للبلاد.  

تعريف الرئاسة
لم يعش جان عبيد مجرد حلم بالرئاسة، وإنما كان يؤمن أنه يستحقها رغم كل الظروف التي عاكسته. ولعل سيرته السياسية، تعكس انكباب هذا الرجل لصقل نفسه ثقافيا ومعرفيًا ودبلوماسيًا بكل ما يجعله يحمل صفات الرئيس الحل أو الانقاذي. ورغم حرصه الشديد على اللباقة في التحدث والتعبير بصوتٍ منخفض وأعصابٍ مشدودة تعكس ثقته بنفسه، أتذكر حين سألته (في 2018) عن رأيه بعهد الرئيس ميشال عون، أجاب بتحفظ ما معناه "ماشي الحال". لكنه استطرد لاحقًا بحديثه عن الصفات التي يجب أن يتحلى برئيس الجمهورية، من انفتاح وحسن إدارة واتزانٍ ورصانة وحيادٍ بعيدًا عن العصبيات الطائفية والحزبية، وأن أحد أهم مهام الرئاسة هي الحفاظ على كرامة البلاد والشرعية والدستور.  

ومنذ نجاح عبيد في انتخابات 2018، حرص الابتعاد عن الإعلام، أو الإدلاء بأي موقفٍ واضح وصريح حيال ما تشهده البلاد، وربما كان تواريه عن الأنظار من حرصه الشديد على بقائه مرشحًا محتملًا لخلافة عهد عون.  

وحين سألت عبيد بطريقة عفوية في أول لقاء معه "هل تريد أن تصبح رئيسًا؟"، أجاب مبتسمًا: "سأصبح رئيسًا حين تأذن السماء، لأن الرؤساء يحتاجون إلى paraphe، أي توقيع إلهي".  

مواقف وعزاء  
وقد صدرت لبنانيًا سلسلة بيانات سياسية معزية بوفاة جان عبيد. فأجرى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون اتصالًا هاتفيًا بنجله سليمان جان عبيد، وقدم له التعازي منوهًا بالدور الذي لعبه الراحل في الحياة السياسية اللبنانية، نائبًا ووزيرًا، والمواقف التي اتخذها خلال مسيرته التي اتسمت بالحكمة والعطاء على الصعيدين السياسي والوطني.  

ونعى رئيس مجلس النواب نبيه برّي عبيد قائلًا أن "لبنان والمجلس النيابي فقد قامة تشريعية وطنية نذرت نفسها حتى الرمق الأخير من حياتها عملًا دؤوبًا من أجل حفظ لبنان الوطن والرسالة". وغرد الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة سعد الحريري قائلًا: "خسرنا اليوم جان عبيد، وخسر لبنان برحيله رجلاً نبيلاً أغنى الحياة السياسية ومنابرها بحكمته وثقافته وصدق وطنيته وكرم أخلاقه وحيويته في ابتكار الافكار التي تحمي لبنان والعيش المشترك".  

كما غرد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط قائلًا: "ورحل آخر الحكماء عن لبنان الغارق وسط غابة التوحش والاغتيال والاثلاث المعطلة لقوى الجهل والحقد والظلامية المحلية والاقليمية. رحل الرجل الوطني والعربي الكريم الأخلاق والنفس فاعتبر ان لا قيمة للانسان خارج محبة المسيح وعدل الرسول. رحل الحبيب جان عبيد صديق كمال جنبلاط وفلسطين".  

وقال الرئيس نجيب ميقاتي: "برحيل جان عبيد يخسر لبنان  شخصية عريقة رسخت نهجا فريدا في فن الديبلوماسية السياسية برصانة الكلمة والموقف. فقد أرسى على مدى سنوات طويلة  نموذجًا  خاصًا في العمل السياسي.. وفي الانتخابات النيابية الأخيرة اجتمعنا في "لائحة الوسط المستقل" في طرابلس التي أحبها جان عبيد حتى الرمق الاخير وبادلته المدينة  المحبة والوفاء".  

وقال رئيس تيار المردة سليمان فرنجية: "لطالما كنت صديقاً للعائلة منذ عهد الرئيس سليمان فرنجيه واليوم، نخسر قامة في الصراحة والأخلاق والشهامة. الصديق جان عبيد سنفتقدك ونفتقد مواقفك الوطنية الصلبة".  

ونعى العلامة السيد علي فضل الله في بيان، عبيد، قائلًا أنه "كان من الشخصيات النادرة التي جمعت بين العمل السياسي والثقافة الواسعة والمنفتحة..". وقال النائب محمد كبارة: "خسرت بغيابه صديقا عزيزا وفيا، وخسرت طرابلس ممثلا يحمل من الرقي السياسي الشيء الكثير، وخسر لبنان قامة وطنية ورجلا إستثنائيا في السياسة والدبلوماسية والعلاقات الانسانية والاجتماعية".  

طرابلسيًا، نعى أيضًا الدكتور خلدون الشريف عبيد، مستذكرًا ما جمعه به، ومما قاله: "ستفتقد طرابلس وزغرتا وكل لبنان قامة كبرى من قامات البلاد الوسطية التي لم تعتش على العصبية والطائفية والمذهبية، رجلٌ عمل طيلة حياته على الجمع وليس على الفرقة".  

ومن عكار، قال النائب السابق لرئيس الحكومة عصام فارس: "الصديق المحب، رجل الحوار، الذي واكب كل المراحل السياسية من تاريخ لبنان الحديث، المثقف الهادئ والخلوق، المحاور بدماثة وذكاء، غيابه، خسارة للبنان، وللحياة السياسية فيه". 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024