نيسان 1975: ربيع لبنان المكسور

أحمد جابر

الجمعة 2019/04/12

يتذكر اللبنانيون نيسانهم الذي كان في صيغة احتفالية. ويذكرون ذلك اليوم من عام 1975 بصفته يوماً للمأساة العامة، ويمررون بين ثنايا التذكر المأساوي بعض "رومانسيات الزمن الجميل". نعم هذا انطباع صادق لدى الذين عاصروا الحرب الأهلية اللبنانية، ولدى الذين كانوا جزءاً من أدواتها المستعملة في الصراع.

زمن اللبنانيين الماضي هذا، ما زال ممتداً في ذهنهم، وهو موجود في متن الكلام الذي تبدلت عباراته، وحاضر في نصوص ونفوس الذين غيَّروا الجملة والكلمة، لكنهم ظلّوا سياديين حيث كانوا، ولبنانيين "أقحاح"، على المعنى الذي نسبوه إلى أصالتهم اللبنانية، وظل الآخر غريباً ولو في السر، وهو لم يصل إلى مرتبة المواطنة الكاملة، أي اللبنانوية الجذرية، حتى عندما يكون تبادل المجاملات السياسية والاجتماعية معلناً، أو على منابر الجهر.

الأهداف الضائعة
الأجيال التي تسمع عن الحرب الأهلية الداخلية، أو تقرأ بعض ما كتب عنها، لا تبدو معنية كثيراً بذلك التاريخ، ولا تعير انتباهاً ذا معنى للقراءات السياسية والاجتماعية التي تناولت أسباب النزاعات المحلية عموماً، أو تلك التي عدَّدت الأسباب الخاصة لاندلاع نزاع الثالث عشر من نيسان، في الربع الثاني من القرن العشرين.

يتوقف أبناء الحرب الأهلية عند مشاعر تندغم فيها المأساة الشخصية بالبطولات الفردية بالحسرة على أهداف ضاعت.. بعد أن كانت حسب أولئك في متناول اليد، وعلى مسافة قليلة من مرمى البصر السياسي، الذي تسلح بقراءته الأحادية، واطمأن إلى الغلبة الداخلية بعد أن توفرت لها عناصر الدعم الخارجي. يشترك في الوقفة الواحدة أطراف النزاع، الذين أخذوا لبنان إلى ما هو عليه اليوم. الفريق الذي قال أنه الوطنية اللبنانية والعروبة والإصلاح.. استقوى بالوضع العربي الذي كان سلاحه في المحيط منوعات من الدعم السوري غير المستقر، والذي عاد فانقلب على حلفائه، لأن مفكرته اللبنانية كانت، ولنقل ما زالت، انتزاع الغلبة على كل اللبنانيين، والسيطرة على قرار وسيادة وتوجهات "الشقيق الأصغر"، لبنان، الذي آن له، ودائماً وفقاً للمفكرة السورية، أن يعود إلى "أرضه الأصلية"، التي ابتعد عنها لظروف استعمارية قاهرة. كانت العروبة النضالية، والثورية الداخلية، والطموحات التغييرية، تشكل مجتمعة روح الخطاب الذي اعتمدته الحركة الوطنية اللبنانية، التي شكَّل عماد قراراتها رئيسها الزعيم الراحل كمال جنبلاط، والشيوعيون اللبنانيون بطرفيهم، الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان.

فريق العروبة هذا انخرط في حملة التصدي للإمبريالية والصهيونية، ولم يجد ضيراً في استعمال لبنان ممراً ومستقراً لكل من يرفع راية هذا التصدي، على سبيل الحقيقة، أم على سبيل الزور والبهتان.. وكان أهل الزور والتزوير كثرة كاثرة، من الناطقين بالضاد الرسمي إلى من يرطن بكل اللغات واللهجات الأجنبية.

على ضفة اللبنانية التي لم تكن يوماً صافية، وقف فريقٌ آخر قدم لبنانيته هديةً لمن أتى في ثوب دعمٍ خارجي. تنقل الدعم بين العربي والإسرائيلي، وكان الوهم السائد لدى الذين استظلوا ما سموه الانتصار الخارجي لهم، أن البلد سيقدَّمُ لهم كهدية مقابلةٍ بعد هزيمة خصومهم الداخليين، لكأنَّ سياسة المجان تحكم العلاقة بين المتآزرين.

افتراق الأجيال
بين الفريقين لم يكن النظام حَكَماً بل كان الخطّاء الأول الذي أوصد الأبواب في وجه كل محاولات إصلاحه، فآزره اليمينُ الذي من ثوبه، وتصدَّى له اليساريُ الذي خُيِّل إليه أنه قادرٌ على تمزيق ما توارثه البلد من أثواب.

أين يقف الجيل الحالي، والأجيال التي سبقته من رؤية "أجدادهم" المغامرين؟ وما قولهم في أقوالهم؟ وما نظراتهم المختلفة إلى لبنان الذي عرفوه إسماً في التاريخ، ويعيشونه مسمّى في الواقع؟ الأجوبة على الأسئلة السالفة وعلى سواها، وجدت بعض إجاباتها في السنوات غير البعيدة التي تلت اتفاق الطائف، الذي أعلن رسمياً وقف الحرب الأهلية، كذلك جاءت أجوبة إضافية من السنوات القريبة، خاصة تلك التي شهدت تحركات اجتماعية صاخبة عُرفت بأيام الحراك المدني.. لكن السؤال الأهم الذي ما زال ملقياً على الأذهان ما زال سؤال المحصلة، السؤال الذي يختصر زمنين: سؤال ماذا الآن وماذا بعد الآن، في المستقبل القريب وفي الزمن غير البعيد من هذا المستقبل.

السياسي والمدني
استعراض الماضي من قبل أبناء الحاضر يظهر مفارقة جليّة لا يكفي القول باختلاف الزمنين لتفسيرها أو تبريرها. ما هو غير قابل للتبرير هو نفض اليد من السياسة، على مختلف أوجهها ومعانيها من قبل الحاضرين، الذين اتجهوا "مدنياً". نفض اليد المشار إليه أسقط مصطلحات اجتماعية كاملة، واستبعد نظريات وتجارب سياسية ملأت حقبات زمنية طويلة، وكانت لها الكلمة المدوِّية أثناءها. لم يُعرّض أبناء الحاضر ذلك الزمن الحافل بأحداثه وأناسه وتجاربه لعملية نقدية. بل هم أسقطوه من الحساب، وقاموا بشطبه من التداول، وخصصوا له خانة وحيدة هي خانة الفشل. فأُفرد العمل السياسي والأحزاب بناء على ذلك، "إفراد البعيد الأجرب". هذا القطع بين الأزمان ليس عملاً اجتماعياً، وما يُخيل لأبناء "المدني" أنه مدني صرف، هو السياسة بأشكال أخرى، أما الإخفاق في تبيُّن السياسي من خلال المدني، والفصل الوهمي بين هدف التحرك الاجتماعي ووسائله، وجعل الضغط الشعبي فعلاً "خيرياً" لا يبتغي أصحابه إلا مرضاة "ضمير الجمهور".. كل ذلك يقع في خانة العجز النظري والعملي، لدى "المدني" الذي يتخبط بين شعاراته المتبدلة، وبين حركاته غير المضبوطة دائماً.

بعيداً من المدني ومن الحزبي، جدَّد النظام الطائفي البالي وسائل سيطرته. تبدل ميزان القوى الداخلي، وتبدل اللاعبون السياسيون، وثبت النظام الذي خاض أول امتحانٍ عربيٍّ ضد محاولة إصلاحه وتغييره، ثم أثبت وما زال يثبت، أنه النظام الأرسخ قدماً والأعمق جذوراً بين سائر أقرانه.

يطيب لكل المتذمرين من هذا النظام اليوم، أن يسألوا: ما العمل؟ هو سؤالٌ صعب على الرغم من أن الكثرة المدنية والحزبية تستسهل طرحه ولا تمل من تكراره!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024