2020: عام الانفجار الأكبر.. والجريمة الأكبر

نادر فوز

الجمعة 2021/01/01
لن يمحو تحقيقٌ ما حدث يوم 4 آب 2020 في بيروت. العدالة، حتى لو وصلت بعد عام أو عامين أو أكثر، لن تفعل إلا ردّ اعتبار قليل لآلاف من ضحايا جريمة تفجير مرفأ بيروت. في بلد، انعدمت فيه العدالة، على مدى عقود من الجرائم والتفجيرات والاغتيالات، لا يزال البعض ينتظر أن يصدر حكم قضائي يدين المسؤولين والمرتكبين ويفضحهم ويلاحق أرواحهم. لكن التجربة تقول إنّ في لبنان ليس من عدالة، أقلّه هذا ما تدلّ إليه عشرات التفجيرات التي وقعت، وهذا ما يشير إليه واقع عدم محاسبة أيٍ من الجرائم الأخرى، مالية كانت أو شخصية أو عامة. مرّ قرابة خمسة أشهر على الجريمة، وإلى الآن توقيفات وإفادات شهود وادعاءات قضائية تتكسّر جميعها على عتبة سلطة طائفية ومذهبية، ومنظومة حكم تعرف كيف تحمي نفسها في مختلف الظروف وفي مختلف المواسم.

الجريمة
مرّت خمسة أشهر، ولا يزال 9 أشخاص مفقودين جراء التفجير، باعتراف الدولة اللبنانية. والدولة اللبنانية لم تتكبّد أساساً إعلان أسماء هؤلاء المفقودين. هم أرقام. 5 سوريون، 3 لبنانيون، ومصري واحد. حتى التدقيق في اللوائح الأولية للجرحى والمفقودين لا يجدي نفعاً، على اعتبار أن حصر كل تلك المعلومات يُفترض أن يكون عمل أجهزة ومؤسسات ومختصّين. في جريمة 4 آب، 205 قتلى أيضاً عُلّقت صورهم على شجرة لعيد الميلاد بالقرب من المرفأ. أكثر من 6000 جريح وما يزيد عن 300 ألف نسمة هجّروا من منازلهم. تفجير المرفأ، أكبر تفجير غير نووي هزّ الكرة الأرضية. انفجار عظيم، كان يفترض أن يعني ولادة جديدة، فجاءت معطوبة ومشوّهة وغير مكتملة.

رواية التفجير
عند السادسة وثماني دقائق، من يوم 4 آب، انفجر العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت. سبقه انفجار صغير ودخان كثيف وانفجار مفرقعات. ثم دوت حبّة فطر عملاقة، بألوان متميّزة حمراء وسوداء ورمادية، في سماء لبنان. رواية أولى صحيحة تقول إنّ المسؤولين عن المرفأ خزّنوا مفرقعات نارية وعشرات آلاف أطنان نيترات الأمونيوم في عنبر واحد. رواية ثانية تضيف إلى الأولى أنّ عملية تلحيم كانت تجري في أحد أبواب العنبر قبل وقوع التفجير الأول. ورواية ثالثة تؤكد أنّ مسؤولية التخزين وتفريغ حمولة النيترات وعدم حمايتها وعدم إنذار العاملين في المرفأ ولا المواطنين بوجودها تقع على الدولة اللبنانية بمسؤوليها ورؤسائها ووزرائها وضباطها وأجهزتها المعنية.  

سيرة النيترات
وصل إلى مرفأ بيروت 2750 طناً من نيترات الأمونيوم عام 2013 على متن باخرة روسوس التي انطلقت من جورجيا إلى الموزمبيق، فحطّت في بيروت لتحميل معدّات وتعطّلت على باب المرفأ، وبقيت فيه إلى أن تم تحميل ما عليها وتوضيبه في قنبلة موقوتة في العنبر رقم 12. لكن في سيرة النيترات أيضاً، أنّ تقارير خبراء وأجهزة أمنية غربية عملت على التحقيق في الانفجار تقول أنّ كميّة النيترات التي انفجرت في المرفأ لا تقدّر سوى بـ550 طناً. مع التأكيد على أنّ الكمية المخزّنة في العنبر وقت وقوع التفجير قُدّرت بـ1200 طناً. ما يعني أنه من أصل 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، بقي في المرفأ فقط 1200 طن. انفجر منها 550 طناً ولا يزال منها 650 طناً مفقودة بعد التفجير. يعني أيضاً أنّ 2200 طناً من النيترات مفقودة قبل وبعد التفجير. مع العلم، أنّ دقّة أجهزة الدولة في الكشف على مسرح الجريمة تظهر من خلال اكتشاف ما يزيد عن 4 أطنان من النيترات في المرفأ بعد شهر على وقوع التفجير. أما الفضيحة الأكبر، فكانت في نشوب حريق في المرفأ، بعد شهر من التفجير، تخطى دخانه الحدود اللبنانية. حريق عزّز لا الثقة بالدولة وأجهزتها. 

استخدام عسكري
روايات واتهامات كثيرة شابت ملف النيترات في مرفأ بيروت. تقول أولى إن هذه الأطنان من النترات المتفجّرة وصلت إلى بيروت بغية تحميلها إلى سوريا لمساعدة قوى معارضة للنظام فيها. وتقول ثانية، إنها وصلت إلى بيروت لتصل إلى النظام نفسه لاستخدامها في صناعة البراميل المتفجرة لقتل ما تبقى من شعب سوري في سوريا. أما ثالثة، فتشير إلى أنها موجودة لصالح حزب الله بغية استخدامها عسكرياً في سوريا أو في أي مكان آخر، وهو ما سارع الحزب إلى نفيه على لسان أمينه العام. ثم عمد إلى التقدّم بدعاوى قضائية ضد كل من يشير إلى علاقة الحزب بالنيترات.

فرضيّتان
منذ يوم التفجير وإلى اليوم، لا تزال فرضّيتان متناقضتان قائمتين حول الجريمة. الفرضية الأولى، أنّ التفجير حصل عمداً لمستودع من المواد القابلة للتفجير والتي يمكن استخدامها في صناعة المتفجرات. وتكمل الفرضية نفسها أنّ التفجير ناجم عن استهداف صاروخي، وهو ما أشار إليه شهود عيان كانوا في محيط المرفأ لحظة الانفجار وشهدوا على صوت أزيز لطيران حربي أو لصواريخ. أما الفرضية الثانية، فتؤكد أنّ التفجير وراءه عامل الإهمال واللا مسؤولية والإخلال في الواجبات من قبل مسؤولي المرفأ، الإداريين والأمنيين.

التحقيق والتوقيفات
إلى اليوم، ادّعى المحقّق العدلي في الجريمة، القاضي فادي صوان على 28 شخصاً في القضية، إضافة إلى رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب والوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس. أما عدد الشهود الذي حضروا وقدّموا إفادتهم أمام صوان، فيبلغ عددهم 51 شخصاً. كما تم إلى اليوم توقيف 25 شخصاً وجاهياً إضافةً إلى 3 آخرين غيابياً، في حين لم يمثل المسؤولون الأربعة إلى اليوم أمام القاضي صوّان. ومن بين الموقوفين مدير المرفأ حسن قريطم، مدير عام الجمارك الحالي بدري ضاهر، والسابق شفيق مرعي، وموظفون آخرون أبرزهم نايلا الحاج، ميشال نحول، جورج ضاهر، نعمة البراكس.

تهرّب من الادعاء
تهرّب الرئيس دياب والوزيران السابقان، النائبان الحاليان علي حسن خليل وغازي زعتير، من الادعاء عليهم في جريمة المرفأ من خلال مواد قانونية (المادتين 40 و70 من الدستور، والمادة 85 من قانون أصول المحاكمات الجزائية). لم يمثلوا أمام صوّان وتذرّعوا بعدم التبلّغ وفق الأصول، ثم قدّم زعيتر وخليل طلباً لنقل الدعوى من يد القاضي صوان بحجة الارتياب المشروع.

حملة طائفية ومذهبية
ما أن أصدر القاضي صوّان الادعاء على المسؤولين الأربعة حتى بدأت حملة مذهبية وطائفية تدافع عن المدعى عليهم وتشيطن القاضي والتحقيق. فاحتشد رؤساء الحكومة السابقون وراء الرئيس دياب، ولو أنه الموصوف من قبلهم بمنفّذ أجندة حزب الله وإيران في لبنان. كما استنكرت القيادات الشيعية الادعاء على الوزيرين المحسوبين عليهما مشيرةً إلى التسييس، ووضعت الخطوة القضائية في إطار استكمال حرب العقوبات عليها. فتكسّر تحقيق القاضي صوان على عتبة طائفية الأحزاب والقيادات السياسية في لبنان، وتمّت أبلسته بانتظار خطوات قضائية ذي طابع سياسي من الممكن أن تُقدم عليها السلطة اللبنانية، من خلال سحب ملف تفجير المرفأ من يدي صوّان وتنحيته عنه.

دعاوى شخصية
غطّ القاضي صوّان والتحقيق بجريمة مرفأ بيروت في سبات موسم الأعياد. لكن بعيداً عن هذا النوم المتوّقع، لا تزال نقابة المحامين في بيروت تتابع جمع المعلومات والملفات من مواطنين متضررين مباشرين وغير مباشرين من جريمة المرفأ، للادعاء شخصياً وعدم تحويل مصير ملف الجريمة إلى مصير مشابه لكل الجرائم التي سبقته. فتمكّنت النقابة إلى اليوم، من تقديم 681 شكوى وادعاء شخصي في الجريمة، مع إمكانية أن يتضاعف العدد ليفوق الـ1500 دعوى تبعاً لمصادر النقابة.

بعيداً عن تحقيق القاضي الصوّان، لم تصدر إلى الآن تقارير الخبراء الفرنسيين والبريطانيين الذين عملوا في مسرح الجريمة. صدر فقط تقرير عن الـ"أف بي آي"، أما سائر التقارير الأخرى، وكذلك الصور الجوية التي طلبتها الدولة اللبنانية، فلا تزال تنتظر إعدادها ربما في مكاتب الأمن الفرنسي والبريطاني. التحقيق، إلى الآن، مستمرّ، وتمّت عرقلته سياسياً. وهو الأمر الواضح في الادعاء المتعثّر على دياب والوزراء الثلاثة. كما أنه لم يُستكمل على اعتبار أنّ أصابع الادعاء لا يمكن أن تتوقّف عند ثلاثة وزراء سابقين ورئيس مستقيل، وغيرهم كثر يقول المنطق إنهم متورّطون. ووسط عودة المطالبة بتحقيق دولي في الجريمة، تأكيد على أنّ انتظار العدالة لآلاف اللبنانيين لا يمكن أن تحصل في لبنان نفسه. انفجار، جريمة، مأساة، تقصير، فضيحة، مجزرة، إهمال، تفجير، كلها عبارات يمكن أن تلازم ملف 4 آب من دون أن تفيه حقّه. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024