ثورة ناصعة.. لا هي أحداث 1958 ولا حرب 1975

مارك ضو

السبت 2019/11/09

تقدمت الثورة سريعاً وحققت إنجازات. والآن، تجد نفسها أمام محاولة حشرها وخنقها في زواريب سياسية وألاعيب دستورية، يتذرع بها الطقم السياسي الممسك بالسلطة. وبسبب ضبابية الصورة، أصبح بعض الثوار وجمهورهم محبطأ. ووصل بالبعض إلى تشبيه حالة اليوم بما جرى قبل حرب 1958 وحرب 1975. لكن هؤلاء المحللين ليسوا على حق بتاتاً، أبداً، إطلاقاً!

هذه الثورة لا تشبه أي من الصراعات السابقة، عام 1958 (صراع أميركي - سوفياتي - ناصري) ضمن صراع مفتوح للسيطرة على الشرق الأوسط بين معسكرين عالميين، وقوة قومية عربية بزعامة جمال عبد الناصر دمجت سوريا ومصر، ومشاريع أميركية بـ"النقطة الرابعة" لقيام محور يمتد من باكستان إلى لبنان لصد التمدد السوفياتي في الشرق الأوسط.

والحرب الأهلية 1975، مهد لها انتشار مجموعات مسلحة لبنانية وأجنبية منذ الستينات، ولحقها تنازل الدولة اللبنانية عن سيادتها عن حزام حدودي في العرقوب لصالح قوة مسلحة أجنبية، وأدى ذلك إلى تسلّح معظم الأحزاب اللبنانية. وكان ذلك يجري في خضم صراع عالمي، وكذلك صراع حول منظومة الحكم في لبنان، بين ما عرف بالمارونية السياسية والحركة الوطنية. يضاف إلى ذلك، قضايا اجتماعية اقتصادية نقابية. لكن في كل من الحربين عام 1958 و1975، كان لبنان في مجده الاقتصادي وليس مهدداً بانهيار النقد والمالية والاقتصاد.

فرصة تاريخية
ما نشهده عام 2019 لا يشبه أياً مما سبق. هذه المرة الثورة لبنانية بامتياز. والأزمة المالية الاقتصادية هي فتيل الاشتباك مع السلطة السياسية اللبنانية القائمة، وهي تشكل المدخل لإصلاح الأوضاع الاقتصادية وكذلك النظام السياسي. ومن هنا شعار "كلن يعني كلن". أي كل شركاء المنظومة الطائفية المتحالفة مع مافيات الفساد. وهذه فرصة تاريخية للقيام بوضع لبنان على أسس سليمة ومستقرة اقتصادياً وسياسياً. وليس في داخلها، أو مطلقيها، أو شعاراتها، ما قد يكرر حروب الطوائف، أو يسمح باستمرار استباحة سيادة لبنان ضمن الصراعات الإقليمية. ما نشهده اليوم، هو ثورة إصلاحية، في جوهرها مفهوم المواطن الفرد، الذي يسترجع حقوقه كما سائر المواطنين من دون تمييز طائفي مناطقي أو طبقي.

حققت هذه الثورة حتى الآن فرملة قاسية لكامل ممارسات الطبقة السياسية، وفرضت أولوية تنفيذ أجندة إصلاحية حقيقية لإنقاذ البلاد من انهيار مالي اقتصادي. وكذلك، إنقاذه من طائفية سياسية مقيتة. وأتت النتائج توالياً، أولاً بوعود الورقة الإصلاحية رغم سيئاتها العديدة، ثم خطاب رئيس الجمهورية عن الدولة المدنية، وثالثاً باعتراف أمين عام حزب الله أن المطالب محقة وأولوية، ويجب معالجتها ولا يمكن تخوين حامليها واتهامهم باتباع أجندات خارجية. كما حققت الثورة، إسقاط الحكومة، وكسب سكوت معظم السياسيين عبر التواصل الاجتماعي والاعلام. وإن حكوا فبلغة تهدئة وتواضع مبتعدين عن التحريض الطائفي أو حتى على اللاجئين السوريين والفلسطينيين. كما نجحت الثورة بالتصويب على كل مكامن الفساد، وتسمية الفاسدين واستعادة قوية للملفات الإعلامية التي كشفت الفساد. الثورة اليوم تفرض الأجندة السياسية على البلاد، وعلى كل القوى السياسية فيها.

الحكومة الجديدة
لذلك، هذه الطاقة للإصلاح يجب أن لا ندع أحداً يخيفها بتهديدات وكلام بالحرب والفوضى، أو بمحاولات تضييع الوقت، وتمييع القضايا وزج البلاد في زواريب سياسية وبهلوانيات دستورية. بالعكس يجب أن نتمسك بالدستور والدولة والمؤسسات لإصلاح الأمور، والدفع السريع لتفعيل عمل المؤسسات، لإتمام الإصلاح الحقيقي من باب المسؤولية الوطنية. والمدخل الضروري والطارئ لذلك هو تشكيل حكومة، رئيسها وأعضاؤها مستقلون بالكامل عن الأحزاب ومصالحهم وشبكاتهم في الدولة. وهؤلاء موجودون بكثرة ويبرعون في لبنان والخارج من قضاة نزيهين، وخبراء، وأكاديميين، وباحثين، وفي عالم الأعمال حول العالم. نحن بالتأكيد قادرون على إيجاد 14-20 شخصية مستقلة عن أحزاب السلطة، وتتفهم الواقع السياسي اللبناني، وكذلك الأوضاع الاقتصادية والمالية. ليست مهمة مستحيلة. لا تحاولوا إحباطنا.

ما يقف في وجه انقاذ لبنان وشعبه ولقمة عيشه هو طقم سياسي، متمسك بالسلطة بالغصب والقوة. هدفهم حماية مواقعهم وموظفيهم التابعين لهم في القطاع العام والسلطة، وعقودهم الفاسدة، ويسعون للحصول على مال سيدر، ومال الصندوق النقد الدولي، وثروة النفط والغاز، ويخافون (هم الخائفون والمربكون) من إمكانية محاسبتهم، وجرّهم إلى المحاكم واستعادة المال المنهوب، وزجهم في السجون. لهذا السبب يراوغون ويماطلون، وما علينا إلا الاستمرار بالضغط عليهم. ونعلم كلنا أنه مع سوء الأوضاع الاقتصادية، من بيده وردة ويطالب بحقه فإن جاع ويأس، سيسقط الوردة ويمسك حجراً حتى يفهم حكام قصور الزجاج.

خمس خطوات واضحة
الثورة أعلنت شعاراتها بوضوح: انتهاء حكم الفساد والطائفية، والانتقال إلى الدولة المدنية الشفافة والنزيهة والتي تحاسب. وخارطة الطريق واضحة: إسقاط حكومة العهد التوافقية (تم بنجاح). ثانياً، حكومة ذات ثقة ولديها قدرات لتنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية وسياسية وانتخابية (لا تبرير للمرواغة لأهل السلطة سوى ارتباكهم وخوفهم، فاضغطوا عليهم). ثالثاً، برنامج وزاري إصلاحي فوري، لتدارك الأوضاع الاقتصادية، خصوصاً لجهة وقف الفساد والهدر وسوء الإدارة، واستقرار الأوضاع المالية والنقدية، وبدء تنفيذ التحول نحو اقتصاد منتج. رابعاً، انتخابات نيابية بأسرع وقت ممكن، بأكبر عدد من الإصلاحات الانتخابية الممكنة (ونتحداهم بأي قانون كان، حتى الحالي السيء نستطيع أن نفكك كتلهم، إذا طُبق تخفيض سن الاقتراع و"الميغاسنتر" فقط). خامساً، تطبيق الدستور، خصوصاً مادة 95 وإقرار قوانين مثل أحوال شخصية مدنية، والمحاسبة، وحق المرأة في منح الجنسية، وغيرها مما يغير مستقبل لبنان اجتماعياً وسياسياً نحو الأفضل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024