حياد ومحاور: صعوبة المساكنة الوطنية

أحمد جابر

الإثنين 2021/03/01

مجدداً، ارتفع الصوت اللبناني الداعي إلى الحياد. جاءت الدعوة هذه المرّة من الصرح البطريركي، وجاءت ذات يوم على لسان الراحل ريمون إده، الذي طالب بتحييد لبنان، وبحماية البوليس الدولي للحدود الجنوبية.
موضوع الحياد واحد، وفرقاء الاختلاف حوله، تبدلت أسماؤهم، وتغيَّر تعريفهم وانتسابهم. في الماضي غير البعيد كان خصم الخلاف فريق يساري وعروبي، وفي لبنان الحاضر، تتشكل الخصومة من خليط داخلي، عماده المذهبية، وملاحقه قوى تتفاوت أوزانها داخل بيئاتها، لكنها لا تتجاوز وضعية الالتحاق بالمذهبية "العماد"، التي هي في الراهن الشيعية السياسية.

مشروع فوق وطني
استمرت المارونية السياسية حاضنة لمطلب الحياد، كان ذلك بالأمس، وهو متواصل ومتصل اليوم، لكن في حالتي اليوم والأمس، خضع المطلب لميزان السياسة، وللتطورات اللبنانية الداخلية المتقلبة.
ومن دون التباس، إذا كان الإسلام السياسي عموماً، خصماً للحياد اللبناني، لأسباب كيانية وعروبية وإسلامية، فإن المارونية السياسية لم تكن دائماً على جادة الحياد، بل هي غادرت هذه الجادة، عندما تراءت لها إمكانية الفوز بالغلبة الداخلية، بالاتكاء على دعم ومساندة قوة خارجية. لقد عرف اللبنانيون نسختين من مغادرة الحياد "مسيحياً"، إحداهما سنة 1976، والثانية سنة 1982، وللمفارقة، كان السند عربياً – سورياً، ومن ثمَّ كان السند عدواً إسرائيلياً. في مقابل النسختين الآنفتين، استمرت "الإسلامية" في موقع لا حيادها، وتقلبت بين نسختين أيضاً، إحداهما العروبية واليسارية، التي دمجت بين الاشتراكية والناصرية والفلسطينية، والثانية، التي أقصت القومية العربية والاشتراكية اليسارية، والإسلامية العمومية، وألحقت ذاتها بالنسخة الإيرانية، مستفيدة من وطنية مهمة مقارعة الاحتلال الإسرائيلي، ومندرجة في سياق مشروع ما فوق وطني، هو مشروع التمدد الإيراني، الذي يصارع قادته من أجل انتزاع موقع متقدم في المعادلة الإقليمية.

الخلاصة الأساسية، المستقاة من موضوع الحياد، هي صعوبة المساكنة الوطنية. فهذه اهتزت مراراً، وهي تهتز حالياً، لأنها على اتصال مباشر بمسألة تراتبية المجموعات الطائفية ضمن الكيانية اللبنانية، وهذه الأخيرة استندت إلى مسلّمات "بنائية"، قاربت مفهوم الهوية في السياسة، المتصلة بمفهوم الهوية "النشوئية"، التي تستحضر عند التقاطعات الخطرة، على نحو تطرح "اللبنانية" على بساط البحث، ويعلو سؤال "أي لبنان نريد"؟ إذن، ومن دون الخروج عن سياق الواقع، بات شعار الحياد إعلاناً واضحاً عن رفض أحكام التراتبية الحالية، وعن رفض خيارات الخروج عن معادلة "اللامقر واللاممر" الاستقلالية، ورفض "تغيير وجه لبنان"، وهذا شعار يعلن ولا يضمر، أن لبنان المتوافق عليه، والذي أملى التوافق وجوده على هذه "الهيئة" التشكلية، هذا "اللبنان" صار من الصعب التعرّف عليه، بعد كل العمليات السياسية الجراحية التي خضع لها جسده الواهن.

باسم فلسطين
على ضفتي المواجهة، لنلاحظ أن الفرقاء "الحياديين وغير الحياديين" والمتنقلين بين الشعار وخلافه، استعاروا شعارات وشعارية، ليست من أصل أدبياتهم السياسية "التأسيسية". شعار العروبة، وشعار فلسطين مثلاً، لم يكونا شعارين مسيحيين شعبيين، ولنقل أنهما كانا موضوع عداء سياسي في فترات مختلفة. راهناً، تبدّلت الحالة السياسية، وفلسطين والعروبة حاضرتان في خطاب المسيحية السياسية. أقرب تفسير لهذا الانتقال من خطاب إلى خطاب، هو القول إن العروبة والفلسطينية صارتا بلا كلفة على الناطقين بها، بلا أعباء أو مترتبات، في العملية الصراعية ضد إسرائيل، وعلى هذه الخلفية بات اعتماد العروبية وسواها، توظيفاً مجزياً، بعد أن خبت نار الحقبات الصراعية، باسم فلسطين وباسم الوحدة العربية.

وما كان غير شعبي لدى المسيحية السياسية، كان "الشعبي" الأول لدى البيئة القومية واليسارية، وضمن الإسلامية السياسية الواسعة، وقد انتمت البيئتان المشار إليهما، إلى الفكرة والأسلوب، وتحملتا عبء النتائج المترتبة على الصراع، في الميدان القومي الرحب، وفي الساحة الفلسطينية التي تقدمت الصفوف الصراعية بعد هزيمة حزيران 1967. في الخلاصة، أصاب الحياد أبناء "العروبة" في الماضي، واللاحياد بنسخته الحالية، يصيب الأبناء ذاتهم أيضاً، وهكذا تصير المواجهة من دون توسطات داخلية تخفيفية، من ناحية بنية المختلفين التي يطغى عليها اللون "الديني"، ومن ناحية الانزياح إلى المحيط العربي من جهة، والانحياز من جهة أخرى، إلى الجهة الإيرانية التي جعلت عدداً من البلاد العربية ميداناً "لخيولها". التوسط الذي أشير إليه، هو البنية المختلطة التي ضمَّت ذات يوم، اللبنانيين الذين تعرفوا على ذواتهم في ميدان المصالح العامة، من طبقية وغير طبقية، فعملوا من أجل عمومية متجاوزة، اصطدمت بتحالف الطوائف، التي تجوب ساحات النزاع بينها في يومنا الحاضر.

الداخل ممر إجباري
لن يفعل طرح الحياد اليوم أكثر من تسنين الزوايا التي جرى تدويرها طويلاً. هذا لا يذهب إلى القول بالإحجام عن الطرح، بل يدعو إلى رؤية "انبعاثاته". من هذه الأخيرة، إحداث شرخ يتقدم فيه الطائفي على الوطني، وهذا مما يعرفه اللبنانيون جيداً. ومنها، المبالغة في التعويل على الاستجابة الدولية، وإدراك أن أبناء المدار الدولي هم الرعاة الأصليون لما صارت إليه الحال اللبنانية، والأحوال العربية. لذلك، ومن دون إطالة، يجب أن تكون صرخة الحياد داخلية الوجهة، وذات وظيفتين، الأولى، حشد صف واسع حولها، ينطق بكلام واسع من أجلها، ويغادر كل تصنيف مستفز، أو لغة تهويلية ضاغطة. أما الثانية، فهي وظيفة فتح ممرات تبادل اقتراحات وحلول، تستجيب لضرورات الوضع اللبناني، وتفهم بدقة، موقع هذا الوضع ضمن ضرورات المنطقة برمتها. هكذا يصير مفهوماً، أن المطلوب هو تأمين كتلة شعبية مختلطة واسعة، تضغط على الداخل، ومن أجل الداخل، لكبح اندفاعة الالتحاق بالخارج، ولتأمين أوسع مسافة توازن داخلي، بين ما يستطيعه اللبنانيون، وبين ما لا يقوون عليه، وما يرفضون تحمّل تبعاته في آنٍ معاً.
بكلامٍ آخر، ليكن الحياد شعاراً تذكيرياً، يعلن تمسكه بالمساكنة اللبنانية، ويعلي صوت رفض الخضوع لكل السياسات التي من شأنها أن تجعل المساكنة مستحيلة.
هو أمر صعب، في كيان صعب، لكن لا بديل من خطوات سياسية واضحة، عاقلة وهادئة، تحسن التحرك في مسالك "وطن" لم ينجز كوطن، بعد قرن من إعلانه بلداً للمعضلات، وللمصاعب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024