عندما جنّ السنّة!

محمد شبارو

الأربعاء 2015/04/22
صباح اليوم، إستفاق اللبنانيون ليجدوا حقيقة تاريخية جديدة. الأرمن المقيمون في لبنان منذ ما يقارب المئة عام، نتيجة المجزرة التي تعرضوا لها في عهد السلطنة العثمانية، ونتيجة التهجير من قراهم ومدنهم، تبين أنهم وصلوا الى لبنان معززين مكرّمين برحلات "خمس نجوم"، ثم أقاموا في فنادق فخمة، قبل أن ينشئوا لهم، بأموال وأراضي الطائفة السنية، مدناً كاملة المواصفات في برج حمود ومجدل عنجر.


هذه الحقيقة، ليست من نسج الخيال. على مدار الأيام الماضية حاول عدد من رجال الدين المحسوبين على الطائفة السنية، شن هجوم مضاد على إحياء الذكرى المئوية للإبادة، مترافق مع حملة أخرى في وسائل التواصل الإجتماعية، مفادها أن الإبادة هي محطة خلاف تاريخي، وأنها كانت أشبه بحرب بين عصابات وميليشيات أرمنية، والدولة العثمانية، إرتكب خلالها الطرفان بعض "التجاوزات".

ظل النقاش إلى حد ما منضبطاً تحت ستار اختلاف الرأي، إلى أن خرج الملف عن حجمه مع إعلان وزارة التربية والتعليم تعطيل المدارس الرسمية والخاصة يوم الجمعة 24 نيسان الحالي، في الذكرى المئوية الاولى للإبادة الأرمنية، ليجنّ جنون بعض اللبنانيين، وبعض المشايخ، ولتتوج حفلة المزايدات برسالة صادرة عن المدير العام للأوقاف الإسلامية الشيخ هشام خليفة، موجهة إلى وزارة التربية، وفيها استنكار للقرار، ووصف لحقيقة تاريخية بأنها "حادثة" و"محل خلاف تاريخي". ثم تبعها بيان صادر عن مؤرخَين من الطائفة السنية، هما حسان حلاق وعصام شبارو. هكذا قرر بعض رجال الدين والمؤرخين، وبعض "المواطنين"، ضرب كل الحقائق التاريخية. وغداً، قد يخرج أحدهم داعياً إلى إلغاء عيد الشهداء مثلاً، وليشكك أصلاً في الجريمة المعلومة تاريخياً، وفي إعدام عدد كبير من أبناء لبنان وسوريا وفلسطين، في الساحات العامة، وليشكك أيضاً في الإسم والكنية.

في بيان حلاق – شبارو تناقضات كثيرة لا تصب إلا في خانة التأكيد بأن البيان لم يصدر سوى من خلفيات طائفية صرفة. اعترف الثنائي، المعروف كأهم أساتذة التاريخ في لبنان، بمجازر الدولة العثمانية بحق اللبنانين، والتي بسببها أُعلن عيد الشهداء يوماً وطنياً، لكنهما أصرّا على أن رواية الإبادة الأرمنية فيها "الكثير من التزوير والمغالطات والمبالغات"، قبل أن ينتقلا إلى تفنيد الإنتهاكات والإعدامات التي مارستها "قيادات الاتحاد والترقي المناهضة للعرب والعروبة"، و"القائد جمال باشا" بحق اللبنانيين عموماً والبيارتة خصوصاً، من دون إلصاق صفة الجزار به! وعلى الرغم من كل هذه الإعترافات، ظلت الإبادة الأرمنية مجرد كذبة تاريخية!

لا يقتصر ما حصل خلال اليومين الماضيين على خلاف بسيط. في الشكل، يدل على عمق الإزدواجية الأخلاقية والإنسانية التي أصبح اللبنانيون يتقنونها. وفي المضمون، ثمة من حيث لا يدرون، نسف لكل التاريخ، أو على الأقل ما هو في خانة الحقيقة التي لا يمكن إنكارها.

من بين ما نشر في مواقع التواصل الإجتماعي من صور وتعليقات، أحدها يقول: "الدولة العثمانية تمثلني". هكذا ببساطة، أضحى البعض، تمثله سلطنة ثار كل اللبنانيين ضدها، لما إرتكبته من ممارسات بحقهم، وصلت إلى حد تحالف الطائفة السنية مع "الشيطان الإنكليزي" من أجل الإستقلال. وبكل بساطة يخرج "البعض" ليعتبر أن السلطنة العثمانية تمثله، وهو نفسه ثارت ثائرته قبل أسابيع بسبب أحلام "الإمبراطورية" الفارسية.

اليوم، تلعب الطائفة السنية بمشايخها، ومؤرخيها، دور المساند للجلاد. هي حال الطبقة اللبنانية بعشائرها ومللها وطوائفها. تدعم جلاداً، وتقف ضد جلاد آخر، فيما إزدواجيتها هذه تشرع الإجرام أينما حل. المشايخ والمؤرخون الثائرون اليوم، هم أنفسهم من وقف ويقف يومياً خاطباً ومتحدثاً عن جريمة العصر المرتكبة في حق الشعب السوري من قبل سلطان جائر في دمشق. أيحق لعبد الحميد الثاني ما لا يحق لبشار؟

هؤلاء المشايخ والمؤرخون أنفسهم، يقفون يومياً للتحدث عن رفض عنصرية البعض في لبنان بحق اللاجئين السوريين الذين هربوا من براميل الأسد المتفجرة، قبل أن يمننوا اللاجئين الأرمن بأرض تابعة للأوقاف الإسلامية قدمت لهم في عنجر "حرصاً على كرامتهم وأمنهم وسلامتهم"، على الرغم من حاجة الطائفة لها!

أبعد من ذلك، ثمة ترداد واضح لأدبيات لطالما رددها الجلاد على إختلاف توجهاته، في سوريا، وإسرائيل، والعراق (صدام حسين)، والسلطنة العثمانية. أدبيات تضع اللوم دوماً على المستضعف، وتنكر المسؤولية. وفق ذلك، تحججت إسرائيل بتواري المسلحين في فلسطين ولبنان، بين السكان، لقصف التجمعات المدنية. ووفق ذلك أيضاً، يبرر بشار الأسد براميل الحقد، بوصفها تطاول إرهابيين متوارين بين الأبرياء.

لا يسري ذلك على الطائفة السنية حكراً. تطاول الأزمة لبنان كله والمنطقة، بأقلياتها وأكثرياتها. ولا تسقط من تلك الإزدواجية، المقاربات في البحرين واليمن والعراق سوريا. ولا يسقط دعم "حزب الله" والطائفة الشيعية لمجرم سفاح، ويحاججون في المظلومية والمقاومة. ولا يسقط أيضاً أن غالبية الأحزاب الأرمنية التي تحيي ذكرى الإبادة تدعم بشار الأسد أو عبد الحميد السوري.

وبين كل حفلة الجنون هذه، التي تطال الكل، يقف البعض في لبنان من ممانعين، وعلى رأسهم "التيار الوطني الحر"، ووزراؤه، ليقدموا خدمات مجانية لبشار الأسد، الساعي إلى أي "نكاية" سياسية تصب في خانة التصويب على تركيا، ووفق ذلك يحاضر الأسد بالعفة، وتاريخه بحق الأكثريات، والأقليات معروف، بدءاً من الأكراد، وصولاً الى الأكثرية السنية.

تبادل سخيف للأدوار، تعيش فيه الملل والطوائف. تبادل بالدم. وفي بلاد، يصبح فيها الدم رخيصاً، لا يمكن التعويل على الأخلاق والإنسانية، والإعتراف.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024