يومياتي مع البازيلا

أيمن شروف

الخميس 2020/03/26

يوم الثلاثاء، وفي اليوم الرابع عشر على الحجر الذي لم يقطعه سوى ساعة من الركض يومياً (اختفت منذ أيام)، وصلتني رسالة على هاتفي المحمول، تقول إن لدي حتى منتصف الليل كي أعيد تعبئة خدمة الانترنت لدي. أحاول أن أعرف كم تبقى لدي من "جيغابايت" فأكتشف أنه لا يزال بحوزتي ما يفوق 2 جيغا، أي ما يكفي استخدام انترنت بمعدل طبيعي لأسبوع. طبعاً ألاحظ أن لدي شهر استقبال إضافي مقدمة من وزارة الصحة مشكورة طبعاً، لكن فعلياً ما خطر أولاً في بالي سؤال واضح: لماذا لم يُسمح لي باستخدام ما تبقى من إنترنت؟

تعقيم الفاتورة
السؤال طبعاً لا ينتظر أي جواب، هو تقريباً بمثابة استهجان يدوم لوهلة قبل أن أتيقن أن ما حصل هو أمر طبيعي في لبنان. الخطأ أنا ارتكبته، الخطأ كان السؤال أو الاستهجان. سمحت لنفسي أن أتوقع أكثر على اعتبار أننا في أزمة. ثُم سريعاً أيضاً أعاتب نفسي على التلفظ بكلمة أزمة. أُيقن سريعاً أيضاً، أن الفترة الوحيدة التي لم أعش أزمة في هذا البلد، هي حين كنت خارج "هذا البلد"، وأن مُجرد عودتي كان إعلان تصالح قسري مع العيش الدائم في ظل "الأزمة".

قبل يوم من الثلاثاء، طلبت مجموعة من الحاجيات، معظمها غذائية، كونه صار لي موعد يوميّ مع المطبخ الذي قد يكون ملاذاً لاحقاً، وهو اليوم صديقاً عزيزاً لقتل كآبة الوقت الذي لا يمُر. كُنت قد سألت الشاب الذي أخذ مني الطلب عن قيمة الفاتورة. جاوبني: "حوالى 40 ألف". قلت في نفسي: "مقبول، جيدة هذه السوبرماركت". حوالى ساعة ويقرع الباب. أتى شاب الدليفري. أفتح له مُكمماً عن قصد، في بلدٍ كُممنا فيه لسنوات من دون إرادتنا. أسأل عن قيمة الفاتورة، فيتبيّن أنها تفوق الـ 120 ألف ليرة لبنانية. أستهجن، ليس زمن الاعتراض، فالأولوية لتعقيم الفاتورة لا للبحث في الأسعار. في النهاية، بالإمكان الدفع ولكن من غير الممكن المخاطرة والوقوف على باب المنزل لدقائق أمام أكياس أشبه بالمتفجرات، وأنا أمسك المعقم لأمد من خلاله فتيل حياتي ليوم آخر، لموعد مع دليفري آخر، من مكان آخر.

حماية المستهلك؟
بعد أكثر من ساعة في المطبخ وأنا أُحارب من أجل وقت إضافي، استطعت العودة إلى الفاتورة. ألقي نظرة سريعة فتقع عيني على "1 كلغ بازيلا مثلجة – 13000". لم أُصدق. أنظر مجدداً فأرى "1 كلغ خيار – 3000". تذكرت تقدير الشاب على الهاتف "شي 40 ألف" وابتسمت، تبادر إلى ذهني مشهد سوريالي: مفتشو حماية المُستهلك يقومون بتحرير مخالفة بحق السوبرماركت. سريعاً أيضاً أعود إلى الواقع، حماية مُستهلك؟ الحماية الوحيدة التي شعر سابقاً بها اللبنانيون، أو معظمهم، هي حين اقتنوا قطعة سلاح وخبأوها ليوم ينتهون فيه من مسرحيات المحبة والعيش المُشترك. كُنت قرأت قبل ساعة تصريحاً لمسؤول يقول إن "مفتشي حماية المُستهلك يقومون بمهامهم"، لكني لم أُعره اهتماماً. كُنت ذكياً.

أُمسك الفاتورة (المتفجرة) بيد، والتلفون في يد، أتصل بالسوبرماركت فيرد الشاب اللطيف. لم أستطع أن أغضب، القُدرة على القيام بمجهود إضافي، كالغضب، صارت معدومة. أسأله عن سعر "البازيلا" إذا كان صحيحاً أو خطأً بشرياً مثلاً. يجيب: صحيح. أعتقد حين قال لي "شي 40 ألف" كان صادقاً، كان مُعتاداً لسنوات على أسعار مُتقاربة وفجأة صار مُضطراً للتعامل مع أخرى. هو لا يعرف أن الأسعار ارتفعت 3 أضعاف. بالأحرى لم ينتبه لما يقوم به الأجير. هو مثلنا، مثل 98 في المئة من اللبنانيين، يبحث عن الوقت، عن يوم إضافي. طبعاً الـ2 في المئة المُتبقية هي الـ51 في المئة في كُل طائفة أو حزب أو موقع رسمي. طبعاً بين هؤلاء قلّة، راكموا ثروة من خارج كُل هذه المنظومة. هؤلاء هم المحظيون. فقط.

تلك الرفاهية
أغلق الهاتف وأبتسم. طبعاً في اليوم الـ14 صار بالإمكان أن نتحدث مع أنفسنا بصوت مُرتفع من دون أن نخاف، أو نعتبر أننا بدأنا ندخل في الجنون. أقول لنفسي: "لماذا لا تتعلم أن تسأل عن الأسعار قبل أن تطلب"، يُجيبني بخُبث، أيمن صغير أحتفظ به لوقت الحاجة: "هل تعتقد حقاً (يا أهبل) أن المشكلة في السوبرماكرت هذه بالتحديد، أو أن السؤال عن الأسعار سيُغير واقع أنها صارت خيالية أينما كان"، يُكمل وأنا أستمع: "لكن جيد، اسأل عن الأسعار، فهكذا تتعلم ألا تتجرأ على التفكير بأكل البازيلا هذه الأيام". "البازيلا" هو نوع من الرفاهية لا يجب أن نتعوّد عليه. كنا قبل فترة نرى أن نحتسي كأساً من الخمر خارجاً هو فعل رفاهية.

قُمت بطبخ "البازيلا". كانت شهية، هكذا قال لي من هم في الحجر نفسه. شعرت أنني مارست فعلاً رفاهياً غير اعتيادي ولكني استمتعت به. نسيت أني دفعت 13 ألفاً. ثُم أقول لنفسي أن شهر استقبال ليس بالأمر العاطل. هذا الفعل هو تصرف معقول اليوم. التفكير بأنني لن أدفع الكمبيالات المتوجبة عليّ للدولة بعد أيام، حين ينتهي الشهر، هو تفكير مريض. عليّ أن أفكر صح الآن. بحاجة كي أفعل ذلك، نفعل ذلك، من أجل أن نخرج من أزمة "كورونا"، نحن الـ98 في المئة، ولدينا عدواً واحداً: الـ51 بالمئة أينما وُجد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024