بانوراما انتفاضة الغضب: الكثير من الشارع والقليل من السياسة

وليد حسين

السبت 2020/10/17
في أيام 17 تشرين الأولى لم يكن اندفاع المواطنين إلى الساحات والشوارع عفوياً صرفاً، ولا كان تعبيراً عن الغضب بسبب وضع تعرفة على "واتسآب". ففي تلك لأيام الأولى انفجر غضب متراكم في صدور اللبنانيين منذ عشرات السنين، على طبقة سياسية أوليغارشية فاجرة استباحت كل شيء.

ركلة السيدة
المشهد الأول من تلك الانتفاضة - أي ركل تلك السيدة مرافق الوزير السابق أكرم شهيب على خصيتيه، وإطلاق مرافقيه النار في الهواء، نهار الخميس 17 تشرين الأول 2019 - كشف عن انتصار أوليّ للبنانيين على حكامهم، جسده إصرار المتظاهرين على التظاهر طوال الليل، وشاركهم كثر تظاهروا للمرة الأولى. 

وكشفت التظاهرة التي دعت إليها على عجل مجموعة "لحقي"، بعد ظهر ذاك الخميس، عن أن شيئاً ما تغير في مزاج اللبنانيين: خروج عشرات من سيارتهم التي تركوها متوقفة وسط الطريق على جسر الرينغ، فتحول الاسم والمكان معلماً من معالم "تشرين". لقد انفجر الغضب وتصدع الوجل من "النظام" وزعمائه.

وجوه جديدة
صباح الجمعة، قمت بجولة ميدانية متفقداً آثار اليوم السابق، فشاهدت تجمع شبان وشابات منطلقين في مسيرة عفوية، ويسيرون فرادى وعلى هواهم في الشارع، ومن دون دعوة مسبقة. رأيتهم يسيرون من ساحة الشهداء إلى شارع الحمراء. كان مشهدهم غير مألوف لي كصحافي ميداني، ليس عددياً، بل لكثرة الوجوه الجديدة (أكثر من ألفي شاب وشابة) التي أراها للمرة الأولى في تظاهرة.

لم أر القيادات المعهودة على رأس التظاهرات. هي اندفاعة شبابية عفوية وتلقائية غاضبة، تطلع منها صرخة: "حرامية، حرامية"، وكلمات أخرى مثل "كلكم نصابين" و"بدنا مصرياتنا". ولا أذكر أنني سمعت هتافات التظاهرات المتكررة والمعتادة. شيء ما تغير، شعرت.

أحد الحشد الكبير
ثم توالى اللبنانيون على التظاهر إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، حتى المساء. وفي اليوم الثالث ازدادت الحشود، لتكتمل يوم الأحد بتظاهرات مليونية، شارك فيها حتى من سيعرفون لاحقاً بهتاف: "شيعة شيعة".

مئات الحافلات جاءت من ضاحية بيروت الجنوبية، وباقي المناطق، في ذاك الأحد. لكن لغة واحدة طغت على لسان جميع المشاركين: "حرامية، لصوص، سرّاقين، ونهابين". وهذه كلمات يرددها اللبنانيون في أحاديثهم العلنية - لكن ليس العلنية العامة الحاشدة والسياسية - منذ عشرات السنين، رغم انضواء كثرة منهم في أحزاب "الحرامية".

الأصل والفروع
أسست تلك الأيام الأولى لتظاهرات شعبية كبيرة، وكرست ساحات وخيم كثيرة في المناطق، باسم ثورة 17 تشرين:
من ساحة النور في طرابلس، إلى جل الديب، وساحتي الشهداء ورياض الصلح، وعالية وزحلة وصيدا والنبطية وصور وغيرها من الساحات.. وهي ذوت، وربما إلى غير رجعة.

فولكلور الانتفاضة
لكن الانتفاضة أسست لحراك فولكلوري في الأيام والأسابيع التالية. فباستثناء مشاهد قطع الطرق، التي سقط في إحداها الشهيد علاء أبو فخر، لم تعبّر التحركات اللاحقة "المنظمة" عن مظاهر تشرين الأصلية.

فالرد "المنظم" على منع حزب الله قطع الطرق، جاء  بتسيير تظاهرات لطلاب المدراس في لبنان كله. وتلاها تنظيم المسيرة النسائية الضخمة وحفلة قرع الطناجر. وهذه - على أهميتها في إعادة الأمل، بعدما بدأ الناشطون والناشطات يشعرون باليأس جراء تدخل حزب الله لمنع أي تغيير في ستاتيكو السياسية اللبنانية - كانت ما سمي "رد حضاري"، عبّر عن استعصاء الذهاب إلى "إسقاط النظام"، ذلك الشعار الذي صدحت به الحناجر.

وهذا يسري على تظاهرات تشابك أيدي للبنانيين في سلسلة بشرية من صور إلى طرابلس. ويسري أيضاً على عرض الاستقلال المدني، الذي أريد له الكشف عن مدى استقلال اللبنانيين عن السلطة التي تحكمهم.

ويسري على مسيرات "أمهات لمنع الحرب الأهلية" بين الرينغ والخندق الغميق، وبين الشياح وعين الرمانة، وعلى بوسطة الثورة التي كادت تؤدي إلى حادثة مشابهة لبوسطة عين الرمانة.

أكثر من أشهر خمسة على احتلال الساحات ونصب الخيم وتنظيم التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة، قبل جائحة كورونا، تخللتها ليال من عنف القوى الأمنية المنظم، وخصوصاً حراس المجلس النيابي. ولجوء المتظاهرين إلى رشق أولئك الحراس بالمفرقعات وقنابل المولوتوف.

انتصارات رمزية
لكن هذا كله لم يفض حتى إلى تحقيق مطلب واحد من المطالب الأساسية التي رفعت، على الرغم من أن هتافات الهيلا هيلا هو وسواها من الشتائم، التي انهالت على كل رموز السلطة، أسقطت هالات كثيرة، وأقلقت راحة الزعمات.

لكن هذا لم يسقط حتى زعيم واحد. حدث ذلك رمزياً فحسب، على غرار ما فعل تعليق صور الأقطاب السبعة الأساسيين في لبنان على المشانق، بعد انفجار مرفأ بيروت.

وأحتل الناشطون وزارات ومصارف، وأحرقوا بعضها وحطموا واجهاتها الزجاجية وآلات الصرف الآلي، بعد مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والقوى الأمنية التي اعتقلت وسحلت وفقأت عيوناً.

احتفاء بالعنف
واحتفل عشرات ألوف اللبنانيين بمظاهر العنف مشجعين "الثوار" إلى المضي بالمزيد من العنف، الذي دلّ على مدى استعصاء التغيير السلمي.
لكن لا حاكم مصرف لبنان (الحرامي، كما هتفت المتظاهرون) سقط ولا حتى مجلس إدارة مصرف واحد حُل.

هستيريا المجموعات
من المجحف إلقاء اللوم على المجموعات بأنها لم تستطع إحداث أي تغيير يذكر، بعد سنة على الانتفاضة. فهي كانت تواجه أحزاباً سياسية متجذرة عميقاً في صلب النظام اللبناني الطائفي، مدعوماً بطغمة مالية ومصرفية وولاءات للخارج. وتجند حزب الله مانعاً سقوطها وإسقاط نظامها.

لكن بعد سنة على الانتفاضة زاد عدد مجموعات "الثورة" زيادة هستيرية، حتى وصل إلى نحو ألف مجموعة. هذا من دون أن تشكيل جبهة سياسية واحدة (وثّق أحد الناشطين حتى الساعة 486 مجموعة، ويعمل على توثيق باقي المجموعات).

هناك مجموعات لا يتخطى عدد المنضوين فيها أصابع اليد الواحدة. لكنها "منفوخة" وتريد القيادة والتصدر. الكل ينطلق من فكرة "أنا القائد، والقائد أنا"، كما يصفها الناشط الموثق. وأغلبها تسيره أجهزة أمنية من هنا وأحزاب سلطة من هناك، والعديد منها يدور في فلك حزب الله، على حد قوله. 

والمبادرات والتنسيقيات
مبادرات كثيرة ولدت وذوت. وتأسس أكثر من 21 جبهة وتنسيقية، لكنها جميعها ولدت ميتة سياسياً. وجل ما استطاعت المجموعات التوصل إليه تشكيل تنسيقيات لتنظيم التحركات على الأرض، بلا أي رؤية سياسية.

جبهات وتنسيقيات من اليمين واليسار، ومتنوعة مناطقياً وسياسياً واجتماعياً. بعضها تضم مجموعات تنشط على الأرض. أخرى تضم نخباً ورجال أعمال.. لكن لم تتوحد على قاسم مشترك لتأسيس جبهة سياسية نقيضة لأحزاب السلطة.

ورغم أن الانتفاضة جمعت أعداء الأمس (الحرب الأهلية) من أحزاب يمينية ويسارية، لكنها لم توحدهم على مطالب معينة. بل هم توحدوا على الكثير من التحركات في الشارع، وعلى القليل من العمل السياسي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024