منير الربيع
لكنّ مشكلة الأسد مع الحريري الابن تكمن في مواقفه السياسيّة التي اتّخذها قبل زيارته إلى سوريا في العام 2009. ورغم أنّ المشاكل بينهما تبدّدت عقب زيارة الحريري دمشق، لكنها عادت واستفحلت بعد اندلاع الثورة السورية. أمّا اليوم فالأسد يستعيد أنفاسه بعد أن خفتت الثورة السورية. كما أنّه حقّق ما يريده في لبنان من خلال إيصال حلفائه إلى السلطة، بتركيبة تشبه تلك التي كان ينتجها بنفسه في زمن الوصاية السورية، فيما خصومه أصبحوا في موقع الضعف، وانعدام التأثير.
جعجع خارج الحسابات
على إثر التسوية الرئاسية، قيل كلام كثير حول عنوانها الأساسي الذي يُختزل بتسوية إعادة إعمار سوريا بعد انتهاء المعارك العسكرية. يومها تقصّد النظام السوري تمرير مواقف كثيرة بأنّه لن يسمح بالمشاركة بإعادة الإعمار لمن خاصموه. وكَثُر حينها أيضاً الحديث عن علاقات الحريري القوية مع موسكو التي زارها ثلاث مرات، ووضعت زياراته تلك في سياق الاستعداد للدخول إلى سوريا من البوابة الروسيّة، خصوصاً أن الأموال التي ستخصّص للإعمار ستكون أموالاً خليجية بغطاء أوروبي.
كما أن مشكلة الأسد مع الحريري لا تكمن في أنّه زعيم السنّة في لبنان، بل لأنّه اتخذ خياراً ضدّ النظام السوري. وما يريده الأسد هو مراكمة أوراقه وبالتحديد السنّية منها، خصوصاً بعد عمليات التهجير الممنهجة التي قام بها على الأراضي السورية. وأي تغيير في تعاطي الأسد مع الحريري لا يستوجب بالضرورة من الأخير تقديم المقابل، لأنه سيحشره ويحرجه سياسيّاً وشعبيّاً. لكنّ الأسد يبدو مستعداً لتقديم بعض الإشارات الإيجابية للحريري طمعاً باستعادة بعض "الشرعية" السنية، شرط الحصول على مقابل لتصفية الحساب مع وليد جنبلاط. أما سمير جعجع، المحشور في ساحة التنافس "الضيّقة" مع التيار الوطني الحرّ على الساحة المسيحية فليس له أي تأثير في حسابات النظام.
النظام وحلف الأقليات
تبقى المشكلة الأعظم مع وليد جنبلاط لأنه وحده يمثّل عقبة معنوية، بنظر النظام، وإن لم تكن سياسية. لأن أيّ موقف يصدر عنه لاذعاً كان أم قاسياً، يحفّز الآخرين على اتخاذ مواقف مماثلة. فبعض أركان النظام السوري يستعيدون عبارات قيلت سابقاً بجنبلاط أنّه:" يوجع الرأس"، فيما لا يريد الأسد ذلك في هذه المرحلة، لا سيّما أنّ جنبلاط أكثر من ينتقد بشدّة مسار النظام السوري من بوّابة "حلف الأقليات". وإثارة هذه المسألة وحدها كافية لإرباك النظام وإحراجه. ويعود كره النظام لجنبلاط أيضاً إلى عزّ علاقته الجيّدة بالنظام، لأنّه كان يراهن دوماً على البعد العربي للبنان وسوريا معاً ولم ينحصر بالمراهنة على النظام السوري فقط ضمن لعبة التوازنات الإقليمية "والأقلويّة" التي كان يحرص النظام على إدارتها.
تعامل النظام السوري مع جنبلاط أصبح واضحاً، فهو يرعى حلفاءه الدروز لإلهاء جنبلاط بمعارك داخل ساحته وبيئته، وفي التوازي يتكفّل حلفاء النظام من غير الدروز بحصار الرجل وفق المقتضيات الأخرى للتسوية. كما أنّ موازين القوى في الداخل تسمح للنظام المضي في تصفية حساباته مع جنبلاط، لا سيّما أنّ الحريري يجد نفسه مجبراً على اعتماد هذه السياسة لحماية نفسه والتسوية التي يحرص عليها. وهذه نافذة يستفيد منها النظام وحلفاؤه في لبنان لتعزيز مواقعهم وضرب الخصوم، وفق القاعدة الثابتة التي لطالما استخدمها النظام مع الأفرقاء اللبنانيين، وهي الترهيب والترغيب. فحصار جنبلاط في الداخل، سياسيّاً ومؤسّساتيّاً وماليّاً، لا يندرج في إطار تغيير قواعد اللعبة المحلية بل في إطار السياسة العامة المعتمدة من قبل النظام السوري، وذلك لفتح مسار جديد من العلاقات وما ينجم عنها من تداعيات خطيرة. إنّها لعبة أبعد من المصالح التفصيليّة الداخليّة، ومن لا يراها الآن، سيكتشف فظائعها مستقبلاً.