النظام السوري مستعد لمصالحة الحريري..مقابل جنبلاط

منير الربيع

الإثنين 2019/06/17
لا يبدو أنّ لبنان بملفّاته وأفرقائه وتطورّاته السياسية سقط من حسابات النظام السوري، الذي يتعاطى كما لو أنّه لم يخسر لبنان بعد. فالنظام الذي يستعيد أنفاسه في سوريا، يعتبر أنّه استطاع الحفاظ على "إنجازاته اللبنانية" من خلال التركيبة السياسية القائمة اليوم، التي تظهر فيها الغلبة لصالح حلفائه. ومثلما النظام مهجوس بلبنان، فإنّ الأفرقاء اللبنانيّين أيضاً مهجوسين بسوريا بفعل الجغرافيا السياسيّة، وبوصفها الرئة التي يتنفّس منها لبنان أو باعتبارها بوابة أسواقه.

الحقد على جنبلاط
لا يترك النظام السوري فرصة لا يثبت من خلالها طموحه بالعودة إلى لبنان وبأن تكون له الكلمة الفصل بمختلف ملفّاته. تخدمه الظروف والتطورات دائماً. وحالياً تضع بين يديه ثلاثة أوراق قوية تسمح له بالعودة إلى التأثير بالمجريات اللبنانية، من ورقة ترسيم الحدود، إلى ورقة اللاجئين، وصولاً إلى الورقة الأهم وهي الاقتصاد والمال من بوابة إعادة الإعمار، وأحلام الكثير من القوى اللبنانية المشاركة فيها مستقبلاً.
يُعرف النظام السوري ببراغماتيته ولا مبدئيته، فهو لا يمانع إعادة العلاقات مع قوى لبنانية ومنحها بعض الامتيازات في إعادة إعمار سوريا، شرط أن تتعامل معه كما كان تعاطيها في مرحلة ما قبل أحداث العام 2005. فلا شيء يمنحه النظام من دون مقابل. لكن الفيتو الوحيد الذي يفرضه، مرفوع بوجه وليد جنبلاط. إذ يتبدّى كره النظام السوري لجنبلاط عميقاً وقديماً، ولا يتبدّد مع تبدل الظروف والمواقف.

الحريري مغرر به
لم يكن ثمّة حرارة في العلاقة الشخصيّة بين بشار الأسد ووليد جنبلاط، بل على العكس كان الكره سمتها الأساسية، ووصلت إلى حدود إطلاق النعوت القاسية بحق رئيس النظام السوري من قبل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي. في المقابل، الأسد لا يبدي الكره الكبير الذي يكنّه لجنبلاط، تجاه الحريري أو جعجع. بل يعتبر أنّ الحريري قد غرّر به وإلّا لكانت تربطه أفضل العلاقات مع سوريا والتي ظهرت بوادرها بين العامين 2009 و2010، ومنذ إبرام التسوية الرئاسية في لبنان في العام 2016. إذ اعتبر النظام السوري حينها أنّ الحريري عاد إلى رشده بالتسليم بالأمر الواقع والتعاطي بسقوف سياسية متواضعة. فبشار الأسد يدرك أنّ الحريري يريد الاقتصاد قبل السياسة وبالتالي يطمح للمشاركة بإعادة إعمار سوريا. لذا يحسن الأسد اللعب على هذا الوتر مع حلفائه لاستدراج خصومه.
قد يعتبر الأسد أنّ العلاقة مع الحريري تمنحه نقاط قوّة جديدة قوامها استعادة طرف سنّي معتدل، خصوصاً أنّ مشكلته مع السنّة أسبابها ليست طائفيّة بل سياسيّة، مستنداً بذلك إلى تجربة رفيق الحريري مع حافظ الأسد، الذي لم يكن يريد وجود شخصية سنية قوية خارجة على إرادة نظامه. إذ لطالما تلقّى الحريري إشارات مغلّفة بتحذيرات أمنيّة، عندما كان يريد زيارة منطقة سنّية على سبيل المثال، بهدف منعه من التواصل مع واقعه السنّي وتحجيمه سنّياً.  

لكنّ مشكلة الأسد مع الحريري الابن تكمن في مواقفه السياسيّة التي اتّخذها قبل زيارته إلى سوريا في العام 2009. ورغم أنّ المشاكل بينهما تبدّدت عقب زيارة الحريري دمشق، لكنها عادت واستفحلت بعد اندلاع الثورة السورية. أمّا اليوم فالأسد يستعيد أنفاسه بعد أن خفتت الثورة السورية. كما أنّه حقّق ما يريده في لبنان من خلال إيصال حلفائه إلى السلطة، بتركيبة تشبه تلك التي كان ينتجها بنفسه في زمن الوصاية السورية، فيما خصومه أصبحوا في موقع الضعف، وانعدام التأثير.

جعجع خارج الحسابات
على إثر التسوية الرئاسية، قيل كلام كثير حول عنوانها الأساسي الذي يُختزل بتسوية إعادة إعمار سوريا بعد انتهاء المعارك العسكرية. يومها تقصّد النظام السوري تمرير مواقف كثيرة بأنّه لن يسمح بالمشاركة بإعادة الإعمار لمن خاصموه. وكَثُر حينها أيضاً الحديث عن علاقات الحريري القوية مع موسكو التي زارها ثلاث مرات، ووضعت زياراته تلك في سياق الاستعداد للدخول إلى سوريا من البوابة الروسيّة، خصوصاً أن الأموال التي ستخصّص للإعمار ستكون أموالاً خليجية بغطاء أوروبي.
كما أن مشكلة الأسد مع الحريري لا تكمن في أنّه زعيم السنّة في لبنان، بل لأنّه اتخذ خياراً ضدّ النظام السوري. وما يريده الأسد هو مراكمة أوراقه وبالتحديد السنّية منها، خصوصاً بعد عمليات التهجير الممنهجة التي قام بها على الأراضي السورية. وأي تغيير في تعاطي الأسد مع الحريري لا يستوجب بالضرورة من الأخير تقديم المقابل، لأنه سيحشره ويحرجه سياسيّاً وشعبيّاً. لكنّ الأسد يبدو مستعداً لتقديم بعض الإشارات الإيجابية للحريري طمعاً باستعادة بعض "الشرعية" السنية، شرط الحصول على مقابل لتصفية الحساب مع وليد جنبلاط. أما سمير جعجع، المحشور في ساحة التنافس "الضيّقة" مع التيار الوطني الحرّ على الساحة المسيحية فليس له أي تأثير في حسابات النظام.

النظام وحلف الأقليات
تبقى المشكلة الأعظم مع وليد جنبلاط لأنه وحده يمثّل عقبة معنوية، بنظر النظام، وإن لم تكن سياسية. لأن أيّ موقف يصدر عنه لاذعاً كان أم قاسياً، يحفّز الآخرين على اتخاذ مواقف مماثلة. فبعض أركان النظام السوري يستعيدون عبارات قيلت سابقاً بجنبلاط أنّه:" يوجع الرأس"، فيما لا يريد الأسد ذلك في هذه المرحلة، لا سيّما أنّ جنبلاط أكثر من ينتقد بشدّة مسار النظام السوري من بوّابة "حلف الأقليات". وإثارة هذه المسألة وحدها كافية لإرباك النظام وإحراجه. ويعود كره النظام لجنبلاط أيضاً إلى عزّ علاقته الجيّدة بالنظام، لأنّه كان يراهن دوماً على البعد العربي للبنان وسوريا معاً ولم ينحصر بالمراهنة على النظام السوري فقط ضمن لعبة التوازنات الإقليمية "والأقلويّة" التي كان يحرص النظام على إدارتها.

تعامل النظام السوري مع جنبلاط أصبح واضحاً، فهو يرعى حلفاءه الدروز لإلهاء جنبلاط بمعارك داخل ساحته وبيئته، وفي التوازي يتكفّل حلفاء النظام من غير الدروز بحصار الرجل وفق المقتضيات الأخرى للتسوية. كما أنّ موازين القوى في الداخل تسمح للنظام المضي في تصفية حساباته مع جنبلاط، لا سيّما أنّ الحريري يجد نفسه مجبراً على اعتماد هذه السياسة لحماية نفسه والتسوية التي يحرص عليها. وهذه نافذة يستفيد منها النظام وحلفاؤه في لبنان لتعزيز مواقعهم وضرب الخصوم، وفق القاعدة الثابتة التي لطالما استخدمها النظام مع الأفرقاء اللبنانيين، وهي الترهيب والترغيب. فحصار جنبلاط في الداخل، سياسيّاً ومؤسّساتيّاً وماليّاً، لا يندرج في إطار تغيير قواعد اللعبة المحلية بل في إطار السياسة العامة المعتمدة من قبل النظام السوري، وذلك لفتح مسار جديد من العلاقات وما ينجم عنها من تداعيات خطيرة. إنّها لعبة أبعد من المصالح التفصيليّة الداخليّة، ومن لا يراها الآن، سيكتشف فظائعها مستقبلاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024