"نبع السلام":التطمينات التركية المطلوبة

المركز العربي للابحاث

الإثنين 2019/10/14
بعد ثلاثة أيام على مكالمةٍ هاتفية، وافق خلالها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على سحب قوات الولايات المتحدة من مناطق حدودية شمال سوريا، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، المرحلة الأولى من عملية عسكرية واسعة على الحدود مع سوريا، على امتداد نحو 130 كيلومتراً بين مدينتي تل أبيض ورأس العين وبعمق يصل الى 32 كيلومتراً. وتهدف العملية إلى إنشاء منطقة آمنة لإعادة توطين الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا.

وتشارك في العملية التي أطلق عليها اسم "نبع السلام" وحدات من الجيش التركي وفصائل من المعارضة السورية، وتعدها أنقرة استكمالاً لعمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" شمال غرب سوريا في مواجهة ما تعتبره مشروعاً انفصالياً تقوده "قوات سوريا الديموقراطية" التي يغلب على تركيبتها المكون الكردي في الشمال السوري.

أهداف العملية التركية
تختلف العملية التركية الحالية عن العمليتين السابقتين اللتين غلب عليهما شعار محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والتنسيق مع روسيا في شمال غرب سوريا، في أن هدفها الرئيس هو مواجهة "قسد" بعد التنسيق مع الولايات المتحدة، التي توجد قواتها على الأرض في شمال شرق سوريا من خلال التحالف الدولي لمواجهة "داعش".

وقد أعلن الجيش التركي عن هدفين رئيسين للعملية، هما تأمين الحدود "بعد إبعاد العناصر الإرهابية" عنها وإنشاء منطقة آمنة بطول 460 كيلومتراً وعمق 30 -40 كيلومتراً على طول الحدود السورية - التركية شرق نهر الفرات؛ لتوطين نحو مليوني لاجئ سوري فيها وتحويلها إلى "عنصر استقرار في المنطقة وسوريا عموماً". لكنّ هذين الهدفين يخفيان مجموعة أخرى من الأهداف غير المعلنة، أهمها:

تخفيف الضغوط الداخلية على الحكومة التركية في موضوع اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها. وتهيئة بيئة ديموغرافية صديقة لتركيا في الشمال السوري؛ إذ إن غالبية السكان سيكونون من المقيمين سابقاً على أراضيها. بالإضافة إلى إنشاء حاجز ديموغرافي وجغرافي بين تركيا والمنظمات الكردية المسلحة. عدا عن زيادة تأثير تركيا ونفوذها في الصراع داخل سوريا، ودورها في الحل السياسي. وتوسيع المنطقة الجغرافية التي تديرها المعارضة السورية المحسوبة على تركيا لتشمل مناطق أخرى من الشمال السوري الغني بالموارد الطبيعية ومصادر الطاقة. كما انتزاع أو إضعاف ورقة الضغط "الكردية" التي يستخدمها خصوم تركيا ضدها، وحل إحدى قضايا الخلاف الرئيسة مع واشنطن. والقضاء نهائياً على مشروع إقامة كيان انفصالي كردي في الشمال السوري. وأخيراً رفع شعبية الرئيس أردوغان والحكومة، التي عانت في الفترة الأخيرة، بفعل انتعاش المشاعر القومية، وهو أمر مهم في هذه المرحلة تحديداً في ظل الأزمة الاقتصادية وقرب الإعلان عن قيام أحزاب سياسية جديدة منشقة عن حزب "العدالة والتنمية".

العقبات والتحديات
أطلقت تركيا عمليتها بعد تجديد الرئيس الأميركي رغبة بلاده في سحب قواتها من سوريا، ونشره لاحقاً تغريدات أوحت بالتخلي عن "قسد"، بعد سحب القوات الأميركية من بعض النقاط الحدودية، وهو ما دعم فكرة حصول تفاهم ضمني بين ترامب وأردوغان لإطلاق العملية. وقد بدأت العملية في 9 تشرين الأول/أكتوبر، بقصف جوي ومدفعي تمهيدي، وانتقلت بعده مباشرة القوات التركية وفصائل المعارضة السورية المشاركة في العملية إلى الهجوم البري؛ ما يوحي بأن تركيا حريصة على سرعة تحقيق الأهداف، وأن ثمة سهولة نسبية في التقدم. ومع ذلك، تواجه العملية العسكرية التركية عقبات وتحديات كبيرة، أهمها:

أولاً، التحديات الميدانية: وتتمثل في اتساع الرقعة الجغرافية لمناطق شرق الفرات والتي تقدر بنحو ثلث مساحة سوريا يسكنها ما يقرب من مليوني إنسان يتوزعون بين عدة إثنيات، غالبيتهم من العرب. وهناك عدد كبير لـ"قوات سوريا الديموقراطية" يقدر بنحو 60 ألف مقاتلٍ مسلحٍ بسلاح أميركي حديث. ولدى هذه القوات رصيد كبير من التدريب والخبرة في مواجهة "داعش" على مدى سنوات، فضلاً عن أهمية المنطقة اقتصادياً بالنسبة إليها. وإضافة الى غناها بالثروات الطبيعية والمائية، تضم المنطقة نحو 90 في المئة من النفط في سوريا و45 في المئة من إنتاج الغاز السوري. وثمة عدد من القواعد والنقاط العسكرية الأميركية وتلك التابعة للتحالف الدولي والدوريات التي يسيّرها الطرفان في المنطقة، ما يمكن أن ينتج احتكاكات غير مقصودة، كما حصل في عين العرب "كوباني"، عندما أصابت المدفعية التركية نقطة مراقبة أميركية، من دون أن تحدث إصابات. وثمة صعوبات أيضاً تواجه القاذفات التركية بعد وقف "التحالف الدولي" تنسيقه الجوي والاستخباراتي مع تركيا.

ثانياً، الضغوط الدولية والإقليمية: منذ البداية واجهت العملية العسكرية التركية موجة واسعة من الإدانات والمواقف الرافضة، أطلقها مختلف القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، فيما فرضت ألمانيا وهولندا وفرنسا عقوبات على تركيا. ولم يؤيد العملية التركية إلا عدد قليل من الدول أهمها قطر وباكستان وأذربيجان. وتتركز الضغوط الموجّهة لتركيا حول المخاوف من انعكاسات العملية سلبياً على محاربة داعش والتعامل مع معتقليها في سوريا، واحتمال سقوط ضحايا بين المدنيين، ومخاوف من حصول تغيير ديموغرافي طويل الأمد في المنطقة، وهي ضغوط مرشحة للاستمرار والتزايد بمرور الوقت وتعمّق التوغل التركي.

ثالثاً، الموقف الأميركي: يعد الموقف الأميركي، وبدرجة أقل الروسي، الأكثر أهمية من وجهة النظر التركية لما لواشنطن من تأثير، ووجود عسكري على الأرض في شرق الفرات، وكذلك باعتبارها الداعم الأكبر لـ"قسد". ورغم التفاهمات التركية-الأميركية التي أفضت إلى انسحاب أميركي من تل أبيض ورأس العين إفساحاً للطريق أمام القوات التركية؛ ما فهم على أنه ضوء أخضر للعملية، إضافة الى الموقف الأميركي-الروسي الذي عرقل بيان إدانة للعملية في مجلس الأمن تبنته دول أوروبية، فإن أنقرة تتوجس من احتمالات تغيّر موقف الرئيس ترامب من العملية، بسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها داخل الولايات المتحدة، ومن جانب حلفائه في أوروبا والخليج وإسرائيل. كما أن البنتاغون لا يزال يبدي معارضة للعملية، فيما يهدد الكونغرس بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا.

رابعاً، الموقفان الروسي والإيراني: يبدو واضحاً من ردود الفعل الروسية والإيرانية المتفهمة "لمخاوف تركيا الأمنية"، وجود نوع من التنسيق التركي مع الطرفين. وهو عكس ما كانت عليه مواقفهما سابقاً والتي كانت ترفض أي عملية عسكرية تركية في شمال سوريا أو إقامة منطقة آمنة فيها. ويمكن تفسير التغير في الموقفين الروسي والإيراني، بحرص البلدين على إخراج الأميركيين من المنطقة أولاً، على أن يتم التعامل مع تركيا في مرحلة تالية. كما يدل هذان الموقفان على رفض النزعة الانفصالية الكردية، وعلى أن العملية التركية تفيد في معاقبة الأكراد على تحالفهم مع الولايات المتحدة وتبين عقم الاعتماد عليها في توفير الحماية لحلفائها. قد يتغير هذان الموقفان في حال خروج الأميركيين نهائياً من مناطق شرق الفرات، خاصة في ظل إصرار الطرفين على استعادة النظام السوري لهذه المناطق، وإحياء اتفاق أضنة الذي ينظم العلاقة بين سوريا وتركيا في قضايا الحدود والأمن.

خامساً، تكلفة العملية: نظراً إلى التعقيدات والتحديات آنفة الذكر، ينتظر أن تتسبب العملية العسكرية التركية بخسائر بشرية، مدنية وعسكرية، أكبر من سابقتيها، لا سيما إذا ما طالت زمنياً. كما يتوقع أن تكون لها ارتداداتها على الاقتصاد التركي إذا استمرت الضغوط الدولية وتطورت إلى عقوبات، وهذا أقل احتمالاً.

سادساً، المنطقة الآمنة: تحتاج فكرة المنطقة الآمنة التي تنوي تركيا إنشاءها في الشمال السوري إلى موافقة أطراف مهمة مثل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وتعاونها في التخطيط والتنفيذ والتمويل والدعم اللوجستي، الأمر الذي يبدو متعذراً حالياً.

مستقبل العملية التركية
رغم التحديات الماثلة والضغوط التي تتعرض لها، تبدو تركيا مصممة على إكمال المرحلة الأولى المعلنة وهي السيطرة على المنطقة الحدودية الممتدة بين تل أبيض ورأس العين بطول 130 كيلومتراً وعمق 32 كيلومتراً، لا سيما أن المواقف المتحفظة من القوى الرئيسة لم تتحول إلى عقبات ميدانية حقيقية بعد، حيث انسحبت القوات الأميركية إلى عمق 30 كيلومتراً وهي منطقة العمليات التركية، بينما لم تتحرك روسيا وإيران للقيام بأي تعقيدات ميدانية أو تصعيد في إدلب أو في مناطق أخرى يفهم منها محاولة لمواجهة الجهود التركية.

حتى الآن تتقدم القوات التركية بسرعة وسهولة نسبية، مقارنة بالعمليتين السابقتين، حيث أعلنت وزارة الدفاع التركية السيطرة على مدينة رأس العين والوصول إلى الطريق الدولي M4 الرابط بين مدينتي منبج والقامشلي في اليوم الرابع من العمليات. ويبدو أن تركيا تستعجل تحقيق أهداف العملية قبل أن تتزايد الضغوط لوقفها أو استباقاً لحصول تعقيدات في الميدان تبطئ من زخم تقدمها. كما يبدو أن الرئيس أردوغان يستعجل الانتهاء من تطهير المنطقة المذكورة من الميليشيات الكردية وبسط السيطرة عليها قبل لقاء القمة المرتقب بينه وبين الرئيس الأميركي في واشنطن في 13 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

مع ذلك، لا يزال من المبكر تأكيد قدرة أنقرة على تحقيق أهدافها في المرحلة الأولى من دون تعقيدات كبيرة، فضلاً عن احتمال التمدد للسيطرة على كامل منطقة شرق الفرات في حال حصول انسحاب كلي من طرف الولايات المتحدة. وفي كل الأحوال، سيكون على تركيا أن تقدم تطمينات مقنعة لمختلف الأطراف أن غايتها الحقيقية هي مواجهة المشروع الانفصالي في الشمال السوري وحماية حدودها وأمنها القومي، وعدم رغبتها البقاء طويلاً في الأراضي السورية أو إحداث تغييرات ديموغرافية عميقة تزرع بذور عدم الاستقرار لسنوات طويلة قادمة في سوريا وعموم المنطقة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024