إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل:دوافع داخلية وحسابات خارجية

المركز العربي للابحاث

الإثنين 2017/12/11

في قطيعة مع سبعة عقود من السياسة الأميركية نحو القدس، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر الجاري اعتراف إدارته بالقدس عاصمةً لإسرائيل، كما وجّه وزارة الخارجية لـ"بدء التحضيرات لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس".

وكان الكونغرس الأميركي قد تبنى بأغلبية كبيرة من الحزبين "قانون سفارة القدس" عام 1995، ونص على ضرورة نقل السفارة الأميركية إلى القدس في سقفٍ زمني لا يتجاوز 31 أيار/ مايو 1999. إلا أن ذلك القانون تضمن بنداً يسمح للرئيس الأميركي بتوقيع إعفاء مدة ستة أشهر إذا رأى أنه ضروري لـ "حماية المصالح الأمنية القومية الأميركية". ومنذ إدارة الرئيس بيل كلينتون، والإدارات الأميركية المتعاقبة توُقّع الإعفاء تلقائياً كل ستة أشهر، على الرغم من أنهم كانوا قد وعدوا بوصفهم مرشحين بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

أولاً: أهم عناصر القرار
تضمّن قرار ترامب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمةً لدولة الاحتلال الإسرائيلي المحاور التالية:

القدس عاصمة لإسرائيل
بحسب ترامب، فإن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هو "الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله". ومع ذلك فقد حرص في خطابه على تأكيد أنّ إعلانه هذا لا ينبغي أن يمس بقضايا الوضع النهائي.

وبحسب رسالة بعثتها الخارجية الأميركية إلى سفاراتها في العواصم الأوروبية، فقد طلب من الدبلوماسيين الأميركيين التوضيح للمسؤولين الأوروبيين "أن القدس ما زالت قضية من قضايا الوضع النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين وأنه يجب على الطرفين تقرير أبعاد سيادة إسرائيل في القدس خلال مفاوضاتهم". وهو ما أكده وزير الخارجية ريكس تيلرسون مرةً أخرى بقوله إن الرئيس "كان واضحاً للغاية أن الوضع النهائي (بالنسبة إلى القدس) بما في ذلك الحدود سيترك للتفاوض واتخاذ القرار بين الطرفين"، وذلك في إشارة ضمنية إلى أنه يمكن تقسيم المدينة إلى عاصمتين إذا توافق الطرفان.

وكانت إسرائيل قد احتلت القدس الغربية عام 1948، وأعلنتها عاصمة لها عام 1949، في خطوة رفضها المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، ثم احتلت القدس الشرقية عام 1967. وتنص القرارات الدولية على أن القدس الشرقية التي تقع ضمن حدودها الأماكن المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين، أرضٌ محتلة، وهي الجزء الذي يريده الفلسطينيون عاصمةً لدولتهم، وترفض إسرائيل ذلك.

وعلى الرغم من محاولة الإدارة الأميركية التقليل من خطورة القرار، فما لم يقله ترامب ولا مسؤولو إدارته هو أنّ إسرائيل ترفض منذ عام 1967 الاعتراف بحق الفلسطينيين في القدس الشرقية. كما أنّ ترامب برر قراره إعلان القدس عاصمة لإسرائيل بأنه يطبّق القانون الذي أصدره الكونغرس عام 1995.

وينص هذا القانون على أنّ مدينة القدس "يجب أن تبقى موحدة"، و"ينبغي الاعتراف بها عاصمةً لدولة إسرائيل"، ومن هنا، يصبح أيّ حديث عن أنّ قرار ترامب لا يتضمن مصادرة لحق الفلسطينيين في مناقشة قضايا الوضع النهائي، ومن ضمنها القدس، في المفاوضات، ذرٌ للرماد في العيون، خصوصاً أنّ التقارير التي تنشر عن ملامح إطار لحل يعمل عليه فريق صهر الرئيس، جاريد كوشنر، إما أنّها تستبعد القدس الشرقية من الحل، وإمّا أنّها تدعو إلى تأجيل بحثها لسنوات قادمة، حتى لو قامت دولة فلسطينية.

نقل السفارة إلى القدس
وقع تأجيل النقل المباشر للسفارة مدة ستة أشهر أخرى، على أساس أنّ ذلك يستغرق وقتاً حتى يتم "توظيف المهندسين المعماريين والمهندسين الآخرين والمخططين لتكون السفارة الجديدة بمنزلة إشادة رائعة بالسلام عند اكتمالها"، على الرغم من أنّ قرار ترامب يأمر وزارة الخارجية بـ "بدء التحضيرات لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس".

وبحسب تيلرسون، فإنّ "نقل السفارة لن يحدث هذا العام ولا العام المقبل على الأرجح، لكن الرئيس يريدنا أن نبدأ في عملية ملموسة عندما نكون قادرين على ذلك". وبغض النظر عن موعد نقل السفارة فعلياً، فإنّ ترامب بقراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتوجيهه للخارجية ببدء تحضيرات نقل السفارة، يكون قد أنهى، عملياً، سياسةً اتّبعها أسلافه الثلاثة، على مدى أكثر من عشرين عاماً، بتأجيل قرار النقل إلى أن يتم التوصل إلى تسوية سلمية توافقية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

الالتزام بالسلام وحل الدولتين وفق مواصفات إسرائيل
حرص ترامب في خطابه على تأكيد التزام إدارته "القوي بتسهيل التوصل إلى اتفاق دائم للسلام". ولأول مرة منذ وصوله إلى الرئاسة يعلن ترامب دعمه حل الدولتين، غير أنّ دعمه هنا جاء مشروطاً بموافقة الطرفين "وستدعم الولايات المتحدة حل الدولتين إذا وافق عليه كلا الطرفين". وهو ما يعيد المفاوضات إلى مربعها الأول، فهو يمنح حق الفيتو لإسرائيل التي ترفض الاعتراف بدولة فلسطينية بناءً على قرارات الشرعية الدولية.

ثانياً: دوافع ترامب وحساباته
لم يكن قرار ترامب بخصوص القدس محل توافق بين مستشاريه الرئيسين؛ ففي حين عارضه وزيرَا الخارجية، تيلرسون، والدفاع، جيمس ماتيس، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، مايك بومبيو، فقد أيّده كلّ من نائب الرئيس، مايك بينس، والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هالي، وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل، ديفيد فريدمان. كما أيده أيضاً، صهره ومستشاره جاريد كوشنر، والمبعوث الأميركي الخاص للسلام في الشرق الأوسط، جيسون جرينبلات.

تتمثل حجج معارضي هذا القرار في أنه قد يمثّل تهديداً للمصالح الأميركية في المنطقتين العربية والإسلامية، كما أنه قد يضعف الرعاية الأميركية للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية ويفشل أي مقترحات للسلام تعمل عليها، وربما يفجرها عبر الانجرار إلى جولة جديدة من العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلاً عن أنه قد يوتر علاقات الولايات المتحدة بحلفائها من العرب والمسلمين، بل قد يساهم في عزل أميركا دبلوماسياً، حتى بين حلفائها من الأوروبيين. في المقابل، جادل الطرف المؤيد للقرار بأن إعلاناً من هذا النوع سيعزز صدقية ترامب بين الإسرائيليين، وبناءً عليه، يُمَكِّنُه من المناورة مع حكومة نتنياهو اليمينية في حال طرحت الإدارة الأميركية إطاراً لاتفاق نهائي مع الفلسطينيين.

ولكن، ما الأسباب الحقيقية التي دفعت ترامب إلى المضي قدماً في إعلان قراره بخصوص القدس، على الرغم من معارضة كبار مستشاريه في مجلس الأمن القومي؟ حاول ترامب أن يضع قراره في إطار الالتزام بالقانون الذي أقره الكونغرس عام 1995 حول نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ولم يتردد في اللمز من قناة الرؤساء الثلاثة قبله من أنهم كانت تنقصهم الشجاعة لعدم تفعيلهم هذا القانون. كما أن الموضوع بالنسبة إلى ترامب يتعلق بوعدٍ قطعه على نفسه بوصفه مرشحاً. وبناءً عليه، فإنه لا بد من الوفاء به، وذلك على عكس من سبقه من رؤساء، "ففي حين جعل الرؤساء السابقون من هذا الأمر وعداً رئيساً في حملاتهم، فإنهم لم يفوا به. وأنا اليوم أفي به". هنا يبرز بعدٌ شخصي في قرار ترامب، فهو لم ينفذ أياً من وعوده الانتخابية تقريباً، ما يتناقض مع ميله إلى الظهور بمظهر الرئيس القوي الذي يتخذ قرارات لا يجرؤ غيره على اتخاذها، والذي وجد في قضية فلسطين تحديداً فرصةً لممارسة هذا الميل. لكن هناك أيضاً رغبته في إرضاء جمهوره ومحازبيه وقاعدة دعمه الانتخابية؛ وعلى رأسها:

إرضاء اللوبي الصهيوني في أميركا
في آذار/ مارس 2016، ألقى ترامب خطاباً أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (إيباك)، الذراع الطولَى للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، تعهّد فيه بنقل "السفارة الأميركية إلى العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، القدس".

وبحسب تقارير مختلفة، فإنه بعد ذلك الخطاب انحاز الملياردير اليهودي، شيلدون أديلسون، مالك الكازينوهات الشهير (الذي أطلق اسمه على حيٍ في القدس الشرقية بعد الاحتلال مباشرةً)، والداعم للجمهوريين، إلى دعم حملة ترامب للرئاسة، وتبرّع بمبلغ عشرين مليون دولار إلى إحدى اللجان السياسية الانتخابية المؤيدة لترامب، ثم تبرع مرةً أخرى بقيمة مليون ونصف المليون دولار لتنظيم مؤتمر الحزب الجمهوري الذي أعلن ترامب رسمياً مرشحاً رئاسياً له.

ومنذ انتخاب ترامب رئيساً، لم يتوقف أديلسون عن تذكيره بوعده، ولم يخف تذمّره عندما خضع ترامب لضغوط مستشاريه في حزيران/ يونيو الماضي، وقرّر توقيع إعفاء نقل السفارة. وبحسب وسائل إعلام أميركية، فقد دخل ترامب فجأةً إلى اجتماع كبار مستشاريه لشؤون الأمن القومي، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، حين كانوا يناقشون موضوع تأجيل نقل السفارة مرةً أخرى من عدمه، وأبدى إصراراً على ضرورة أن يقدموا له خياراً يسمح له بالإيفاء بوعده الانتخابي، وهو ما تم بالشكل الذي صدر على الرغم من تحذيرات وزيرَي الدفاع والخارجية.

إرضاء الجماعات الإنجيلية
يمثل الإنجيليون نحو 25 في المئة من الشعب الأميركي، وصوّت نحو 80 في المئة من البيض منهم لمصلحة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وتمثل قضية نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس إحدى أولويات تلك الكتلة التصويتية، بل إنّ كثيراً من جماعاتهم ضغط على ترامب للتعجيل بقرار نقل السفارة وإعلان القدس عاصمةً لإسرائيل.

وبالنسبة إلى الإنجيليين، فإن قضية نقل السفارة لا تتعلق بأمر سياسي، بقدر ما هي تحقيق لنبوءة تمهد الطريق لعودة المسيح في الطريق إلى معركة نهاية التاريخ التي يفترض أن تقع في سهل "مجيدو" بحسب الأسطورة، وسوف يقبل اليهود "المسيح" مخلّصاً لهم بعد أن رفضوه من قبل. ومن الأرجح أنّ رجل الأعمال ترامب لا يؤمن بهذه العقيدة، إلا أنه ليس في وارد إغضاب هذه الكتلة الانتخابية الكبيرة المؤيدة له.

خلاصة
جاء قرار ترامب الأخير بمنزلة تعبير عن انتصار أنانيته واعتباراته السياسية الداخلية على مقاربة عقلانية وواقعية للسياسة الخارجية. كما أنه يمثل انتصاراً للمعسكر اليميني المتطرف في إدارته الذي تقوم حساباته على أن الفلسطينيين سوف يبتعدون عن طاولة المفاوضات فترةً، ولكنهم لن يلبثوا أن يعودوا إليها ضمن الوقائع الجديدة، كما فعلوا كل مرة، وهو ما يعني أن الرهان سيكون عملياً على إرادة المقاومة لدى الشعب والقيادة الفلسطينيَين، ومدى قدرتهما على الصمود في وجه الضغوطات الأميركية، والعربية أيضاً، والإصرار على موقفهما بأنّ الولايات المتحدة لم تعد وسيطاً مؤهلاً لرعاية العملية السلمية، والبحث في خيارات أخرى بعد ثبوت فشل خيار المفاوضات.

يأتي هذا في ضوء تسريبات عن أنّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مارس ضغوطاً شديدة على الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، خلال زيارته الأخيرة للسعودية لقبول المقترح الذي طرحه جاريد كوشنر عن "تأسيس ’كيان فلسطيني‘ في غزة وثلاث مناطق إدارية في الضفة الغربية في المنطقة ’أ‘ والمنطقة ’ب‘ و10 في المئة من المنطقة ’ج‘، التي تضم مستوطنات يهودية"، بحيث تبقى هذه المستوطنات على حالها، ويسقط الفلسطينيون حق العودة وتظل إسرائيل مسؤولة عن الحدود. وبهذا المعنى يكون إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل استكمالاً لجهود القضاء على طموحات الفلسطينيين في إنشاء دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة التي احتلت عام 1967، تكون عاصمتها القدس الشرقية، وهي في حد ذاتها تسوية تاريخية قبلها الفلسطينيون.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024