حرائق سوريا..استكمال التغيير الديموغرافي؟

عقيل حسين

الإثنين 2020/10/12
كما هي العادة عند كل حدث يقع في المناطق الخاضعة للنظام، يتفجر جدل كبير بين أوساط المعارضة حول الموقف من هذا الحدث، فقد اختلفت ردود فعل المعارضين عما يخص الحرائق الأخيرة التي اندلعت في غابات ومزارع المناطق التي يسيطر عليها النظام وسط وشمال غرب البلاد.

المواقف توزعت بين من يرى أن ما حصل يُعتبر خسارة وطنية لا تتعلق بحكومة أو نظام بل بثروة اقتصادية وبيئية تعني جميع السوريين، وعليه فقد طالب مؤسسات المعارضة بإصدار مواقف واضحة تؤكد على التضامن مع المواطنين المتضررين، وتطلب من الدول المجاورة التدخل وتقديم المساعدة من أجل السيطرة على النيران.

بينما رأى آخرون أن هذا التعاطي مع الحدث فيه استفزاز لمشاعر المهجرين والنازحين وضحايا قوات النظام وميليشياته "التي تتكون غالباً من أبناء هذه المناطق ذات الغالبية العلوية"، بينما لم تتردد نسبة منهم بالتعبير عن الشماتة والتهجم على المتعاطفين!

وإلى جانب مطالبة هذه الشريحة بقية المعارضين والثوار بتوفير مشاعر الألم والتعاطف لضحايا النظام ومآسيهم التي لا تنتهي، بدل التضامن مع سكان هذه المناطق، الذين يعتقد هؤلاء وبشكل حاسم أنهم من المؤيدين للنظام وحاضنته "باعتبارهم من الطائفة العلوية"، فقد ركز هؤلاء على تقديم تفسيرات وسيناريوهات يعتقدون أن الحقيقة لا تخرج عنها في ما يتعلق بمن يقف خلف هذه الحرائق ومن المستفيد منها.

ورغم أن طيفاً من هذه الشريحة يعتقد بأن الحادثة هي انتقام إلهي، إلا أن فرضية الحريق المفتعل كانت أكثر طغياناً على التفسيرات المقدمة، وإن تعددت الاتهامات حول الجهات المحتملة التي تقف خلف إشعال النيران في غابات وكروم ومزارع المناطق التي طالتها.

وكما كان متوقعاً، فإن التنافس أو الصراع بين حليفي النظام (روسيا وإيران) من أجل السيطرة على الأراضي والمقدرات والثروات السورية كان أحد أهم التفسيرات المقدمة لهذا الحادث، وإن تباينت أراء أصحاب هذا السيناريو. فمنهم من يعتقد بوقوف طهران خلف إشعال النيران بهدف حرمان شركات السياحة الروسية من الاستفادة من هذه المنطقة المثالية لاقامة المنتجعات والمصايف.

وهناك من يرى أن موسكو وانطلاقاً من هذه الغاية تحديداً (إقامة منتجعات وقرى سياحية) أشعلت الحرائق في غابات ومزارع المنطقة، بينما لم يتردد البعض عن اعتبار أن ما جرى يعتبر التنفيذ العملي لتهديدات رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام بشار الأسد، الذي كان قد حذّر في آخر منشوراته على الفيسبوك من "انتقام إلهي" جراء "المظالم" التي ألحقها النظام به، خاصة وأن الحرائق تزامنت مع مغادرة أسرة مخلوف البلاد.

لكن كل ما سبق، لم يمنع استمرار حملات التضامن. فيما جاءت المفاجأة الكبيرة مع كشف شخصيات في المعارضة من سكان المناطق التي اندلعت فيها النيران عن حقائق تنسف معظم السيناريوهات والتأويلات السابقة لصالح احتمال جديد صادم للمعارضة، بعد الكشف عن النسبة الأكبر من المتضررين من هذه الحرائق هم من غير العلويين، وغالبيتهم من السنة، مع عدم استبعاد فرضية التعمد بهدف التهجير.

وحسب هذه المعطيات، فإن النيران تركزت في مناطق تسكنها غالبية من السنة والمسيحيين، سواء في الساحل أو ريفي حمص وحماه.

وفي ما يتعلق بالساحل، فإن الحرائق اندلعت انطلاقاً من جنوب منطقة الحفة في قلعة صلاح الدين واتجهت غرباً نحو بلدة رسيون صعوداً نحو قرية تفيل التي أتت عليها النيران بشكل كامل، بينما خسرت قرية بياس معظم مزارعها ومنازلها، ثم امتدت النيران نحو بلدتي شير القاق والزلغوفة، كما أتت على كامل وادي الحفة وخربة هيشوك قبل أن تتوقف عند حي المشارفة.

النتيجة كانت خسائر قاربت 80 في المئة من شمال وغرب الحفة، وهي منطقة معظم سكانها من السنة الذين سبق وأن هُجّر 80 في المئة منهم خلال السنوات ال8 الماضية، إلى جانب عدد محدود من المزارع العلوية التي تنتشر على أطرافها.

كما تعرضت بعض القرى التركمانية في منطقة البسيط إلى خسائر كبيرة بسبب الحريق، مثل قرية أم الطيور وجب حسن وغيرها من التجمعات السكانية التي تحيط بها الأحراج، ما تسبب بتهجير سكانها، بينما كانت الأضرار أقل في منطقة كسب والفرلوق، ومعدومة في جنكيل وبابنا، حسب العقيد المنشق عن جيش النظام مالك الكردي الذي أطلع "المدن" على تفاصيل عدة تتعلق بمناطق انتشار النيران والخريطة السكانية فيها.

وحسب الكردي، فإن تأثر السكان العلويين كان أقل بكثير من جيرانهم السنة في هذه المنطقة، على اعتبار أن الأحراج تحيط بقرى ومزارع السنة المشجرة، بينما يتركز سكن العلويين في المرتفعات الجبلية التي تنتشر فيها زراعة التبغ والخضروات. وما يزيد من احتمال فرضية الحريق المتعمد هو أن لجوء بعض العلويين من حين لآخر إلى إشعال الحرائق في حراج وغابات المنطقة ومن ثم إقامة تجمعات سكنية فيها أمر معتاد، والسلطات تغض الطرف عنه باستمرار.

لكن حتى اذا تم استبعاد فرضية افتعال الحرائق بهدف تهجير سكان المنطقة والاستيلاء عليها لإحداث عملية تغيير ديموغرافي، فإن فرضية وقوف النظام ذاته خلف الحادث تبدو قائمة جداً حسب العقيد الكردي، "من أجل بيع هذه الأراضي إلى الجانب الروسي الذي يبدي اهتماماً شديداً بها لإقامة منشآت سياحية وعسكرية لا تتوفر لها المساحات الكافية في المنطقة الساحلية من دون القيام بمثل هذا العمل".

ومع كلا الاحتمالين، سواء التغيير الديموغرافي أو الحصول على مساحات لإقامة منشآت روسية في المنطقة، فإن عملية التهجير قائمة ومعظم ضحاياها في هذه المنطقة هم من السكان السنة، أما في مناطق مصياف بريف حماة، ومرمريتا بريف حمص، وصافيتا ومشتى الحلو بريف طرطوس، فغالبية السكان هم من المسيحيين الموارنة مع عدد محدود من الإسماعليين والمرشدية، "فالقرى التي كان يعتمد سكانها على أشجارهم المثمرة كمصدر دخل ما الذي تبقى لهم في هذه الأراضي لينتظروه؟. وبالتالي فإنهم على الأغلب سيقبلون ببيع أراضيهم بأي ثمن والرحيل عنها نهائياً في ظل تسابق إيراني-روسي محموم على شراء الأراضي هناك"، حسب العقيد مالك الكردي.

رغم أن حرائق الغابات والأحراج في سوريا حدث متكرر، ورغم أنه لم يمضِ أكثر من شهر على آخر حريق نشب في المنطقة ذاتها، إلا أن الجدل الذي ترافق مع المشهد الأخير كان غير مسبوق، وتجاوزت التكهنات والتقديرات معه حدّ الاتهام المعتاد لتجار الأخشاب والفحم بالوقوف خلف هذه الحرائق إلى الجدل الطائفي والسياسي، بينما تحضر وبقوة فرضية التهجير بهدف التغيير الديموغرافي، خاصة في المنطقة الساحلية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024