الحلبة السورية.. الضربة القاضية ما زالت في الجنوب

فادي الداهوك

الإثنين 2015/10/05

اعترف الاتحاد السوفياتي بقيام الكيان السوري قبل عامين من اعتراف المجتمع الدولي به سنة 1946. ومنذ ذلك الحين، شكّلت سوريا حاجة كبرى له، ولروسيا لاحقاً، وزاد من أهمية هذا الكيان الحديث واستفراده بالعلاقة مع الروس ارتماءة مصر في تحالف مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، إلا أن تلك الحاجة لم تشهد لحظات يمكن الاستفادة منها مثل هذه الفترة.

على عكس كل الحيرة الدولية المدعية بعدم معرفة ما تريده روسيا من سوريا، يبدو هدف موسكو واضحاً جداً، ويستمد وضوحه من ثبات العلاقة مع النظام وعدم تعرضها إلى أي انزياح مفصلي خلال السنوات الماضية. فعلاقة الاثنين تشهد حالياً أقصى استفادة في تاريخها، وتبعية النظام السوري لروسيا أصبحت متينة إلى أبعد حد، وأصبح ضامن بقاء النظام وتحسين موقعه في أي مفاوضات هو بقاء الثقل الروسي في منطقة الشرق الأوسط من خلال حماية وتعزيز مصالح موسكو على البحر الأبيض المتوسط، ومن أجل ذلك يبدو أن نظام الأسد مستعد لإبداء أقصى درجات التبعية، وتعبيد مزيد من الطرق أمام الروس في سوريا، مستغلاً في ذلك أنه الجهة الوحيدة في البلاد التي تحظى بشرعية دولية، تسمح له بإلقاء الخطب في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وبالتالي التوقيع على معاهدات واتفاقات ليس من السهل أن تشطبها أي حكومة مقبلة بعد الأسد.


البطش الروسي يقابله ضعفٌ في أداء الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة، وخصوصاً تركيا، إذ إنه في الوقت الذي بثّت فيه مقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على قناة "الجزيرة" وإعلانه أنه بصدد الطلب من بوتين أن يراجع خطواته الأخيرة في سوريا، قصفت المقاتلات الروسية مناطق الأقلية التركمانية في ريف اللاذقية، وتلك الكتلة البشرية هي التركة العثمانية الحيّة في سوريا، التي كان من المفترض أن لا تسمح تركيا بالمساس بها.


يدرك بوتين جيداً أن اللحظة الآن هي لحظة حقيقة؛ أوباما منكفىء وصورة أميركا الحازمة منهارة لدى أنظمة وشعوب المشرق العربي. جرّب جولة في أوكرانيا وكسبها، واليوم هو يضرب ضربته القاضية في الحلبة السورية لواشنطن، بعدما كسب الأتراك والسعوديين والمصريين، حيث وقع اتفاقيات تعاون نووي واقتصادي قبل شهرين مع السعودية بلغت قرابة 10 مليارات دولار، واتفاقيات اقتصادية تسعى لحجم تبادل تجاري مع تركيا يصل إلى 100 مليار دولار حتى العام 2023، كما وافق بوتين على طلب أردوغان جعل اللغة التركية لغة رسمية في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا وتنحدر نسبة كبيرة من سكانها من أصول تركية، بالإضافة إلى تخفيض أسعار الغاز إلى تركيا بنسبة 6 في المئة. فضلاً عن أن السيسي وبوتين وقّعا على جملة من الاتفاقيات بين البلدين في آب/أغسطس الماضي، من بينها إنشاء أول محطة نووية بتقنية روسية لتوليد الكهرباء في مصر. وهذا تفسير كافٍ للترحيب المصري بالعمليات العسكرية الروسية في سوريا على لسان وزير الخارجية سامح شكري.


تستغل روسيا في تحركها الأخيرة جملة من المعطيات، في مقدمتها أن الفترة الحالية تشهد أوان انهيار التحالفات داخل قوى المعارضة العسكرية. فالجبهة الجنوبية تتآكل في الجنوب السوري أمام تغليظ الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة لتحركاتها وما مسموح لها أن تحققه في معاركها، كما أن "جيش الفتح" الذي حقق تقدمات واعدة في محافظة إدلب يشهد هو الآخر حالة جمود، أو انتهاء منفعة، تقترب كثيراً من تفكيك التحالف الذي شكّلته حركة "أحرار الشام الإسلامية"، و"جبهة النصرة" مع تنظيمات سلفية جهادية أخرى.


حتى الآن، اقتصرت الغارات الروسية على النصف الأعلى من الخريطة السورية، ويظهر أن أهدافها ضرب إمكانات المعارضة من التقدم نحو الساحل ورسم حزامٍ آمن حول الحاضنة الشعبية للأسد والمصالح الروسية في الساحل السوري، لكنها على الرغم من ذلك ليس من الضروري أن تكون حاسمة، فشمال سوريا، وشرقها، منطقة لا قانون فيها، مسموح أن تكون حيّز نشاط للجميع: الأكراد، وتركيا، وتنظيم "الدولة الإسلامية"، و"جبهة النصرة"، وروسيا، والتحالف الدولي، بعكس الجنوب، الذي يحكمه قانون صارم يسمح لطيران الأسد والطيران الإسرائيلي فقط بشنّ الغارات، وهذا غالباً كان فحوى التفاهم الإسرائيلي-الروسي وما تم تثبيته خلال لقاء بوتين ونتنياهو مؤخراً؛ ما يجري في الشمال لا معنى واسعاً له، أو تأثير طويل الأمد. الضربة القاضية في سوريا هي في الجنوب، وحتى الآن ما تزال بيد إسرائيل، الطرف الوحيد الذي يضرب النظام كلما حاد عن قواعد الاشتباك.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024