إدلب تبتلع سوريا

موفق نيربية

الأحد 2019/08/25
يُقال، والعهدة ليست على الراوي وحده هذه المرة، إن أكثر من ٨٥٠ ألف نازح جديد قد تركوا منازلهم باتجاه المناطق القريبة من الحدود التركية، إثر القصف الرهيب والمعارك اللاحقة الجارفة للسكان والعمران في ريف حماة الشمالي ومنطقة خان شيخون. وبالطبع، تركت تلك النيران الزاحفة وراءها، الكثير من الضحايا، بينهم مدنيون وأطفال ونساء.


هذه هي المنطقة الأخيرة بين مناطق خفض التصعيد التي تم الاتفاق عليها في إطار مؤتمر آستانة بين روسيا وتركيا وإيران، لأن المناطق الأخرى قد تمّت تصفيتها منذ زمن، على الطريقة الروسية من قصف وتدمير وما سُمّي بمصالحات محلية. وهي بذاتها المنطقة التي اعتنى بتنظيم أمورها اتفاق سوتشي، الذي كان ملغوماً بالأساس. فقد تكلم عن مناطق عازلة منزوعة السلاح الثقيل، وعن نقاط مراقبة من الضامنين، تركية في مناطق المعارضة التي سينزع ذلك السلاح منها، كما تكلم أيضاً عن التعاون من أجل محاربة القوى الإرهابية (هيئة تحرير الشام) وإنهاء وجودها في تلك المناطق. تم تنفيذ النقطة الأولى بشكل غير منتظم، والنقطة الثانية بنجاح يحمل عوامل فشل لاحق، ولم تتحقق النقطة الثالثة، رغم الاتفاق الضمني على إعطاء الوقت للأتراك حتى يقوموا بحل مسألة النصرة من دون توتر وصراع عسكري، ولم ينجح ذلك. وربما كان جذر الفشل أساساً في الاعتماد على موافقة النصرة وتسهيلها لإنشاء نقاط المراقبة، أو لعله الوقوع في الفخ الروسي، الذي ترك المسألة مائعة وغير منصوص على تفصيلاتها حتى تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، ومن ذلك ما حدث بالفعل مؤخراً، تحت عنوان إنهاء القوى الإرهابية، بعد عجز الأتراك عن حله بمعرفتهم. وليس إلا هذا ما يفسّر الموقف التركي الذي انحصر بتهديد هو تحصيل الحاصل، محذِّراً من المساس بالقوات التركية أو التمادي بالتحرش بها، لأن من يقوم بذلك "يلعب بالنار".

في رأي بعض أكثر المعارضين السوريين "الرسميين" عقلانية أن انسحاب الأتراك الآن من نقاط المراقبة، سوف يعني رسالة سياسية واضحة بأن أنقرة ترضخ للسيناريو الروسي٬ وأن من مصلحة السوريين إبقاء تفاهم "سوتشي" قائما، ربما لأن هذا الاتفاق هو المستند الوحيد لوقف شامل لإطلاق النار والحفاظ على سلامة المدنيين. وترافق ذلك مع دعوة إلى حلّ لهيئة تحرير الشام، وإلى انضمام منتسبيها إلى القوى المعارضة الأخرى.. ويا دار ما دخلك شر!

على المحور الروسي- الأميركي، يبدو أن معركة خان شيخون هذه، التي لجأت فيها القوة الجوية الروسية إلى تنفيذ مئات الغارات في تمشيط عنيف بالنار للمنطقة، حتى سبقت "هزيمة" القوى المعارضة بوقت ملموس "انتصار" القوى الملتفة حول النظام، يبدو أن هذه المعركة ضغط مُرسل إلى مسار شمال شرق سوريا، حيث ظهرت إشارات على احتمال التقدم في التفاهم على المحور التركي- الأميركي. نقطة الضعف في ذلك، كانت في خلل الالتزامات على المحور الثالث: الروسي- التركي٬ حيث تهاون الروس لفترة طويلة نسبياً- ومعهم الإيرانيون- وبشكل قد يكون مقصوداً، مع الالتزامات التركية الرسمية التي تخص المنطقة العازلة وإنهاء مسألة هيئة تحرير الشام.

من الطبيعي هنا أن يحصل هذا الخلل٬ لأن من الصعب على الجانب التركي حمل عدة بطيخات بيد واحدة، في مواجهة وعلاقة معقدة مع العملاقين الأقوى في العالم. ومن الأصعب على الحكومة التركية الحالية، الإبقاء على بطيخة واحدة٬ بمتابعتها المنفردة المنعزلة لمشكلة "الأمن القومي" المتعلق بالمسألة الكردية، والتضحية بكل قضية أخرى.

هذا الكلام نافل بالطبع وغريب في مقابل مشهد المحرقة، التي شملت ستة مستشفيات وأربع سيارات إسعاف واثني عشر مركزاً لطوارئ للدفاع المدني، وحيث انساب الناس على عجل باتجاه الحدود بعشرات الألوف يحملون صغارهم ومخداتهم. وغريب صمت العالم والمجتمع الدولي على من يزودونه، هم بأنفسهم، بإحداثيات هذه المواقع ليتجنبها في غاراته٬ فيستهدفها مباشرة٬ ومن دون أخطاء أو حاجة لتصحيح الرمايات.

رغم ذلك، لا بدّ من التأكيد على ما هو مؤكّد، ويتجنبه البعض لأن التعرض له غير جائز في زمن الموت والخسائر الفادحة.

لا بدّ من إعادة التأكيد على أن وجود وهيمنة- بل فرعنة- قوى الإرهاب والتطرف، وعلى رأسها هناك هيئة تحرير الشام أو النصرة أو ما شئتم٬ هو الثقب الأسود الدائم٬ الذي يجري تجاهله لأن العديد من مقاتليه من السوريين أو أهل المنطقة، ولأن أثرهم التكتيكي فعال في جسم العدوّ الزاحف من دون رحمة. ومعروف جيداً أن هنالك نسبة مهمة من المقاتلين الأجانب متواجدون في أكثر من مكان.

ولطالما كان النظام ومن وراءه حريصين على استمرار وجود تلك القوى السوداء، لأنها أفضل غطاء لعملياتهم الوحشية التي كان يُظنّ أن وجود السكان المدنيين الكثيف في مدنها سيمنع اجتياحها على الشكل الذي حصل مع خان شيخون. ولأنها تفعل كما يفعل الثقب الأسود في أعماق الكون، بجاذبيته غير المتناهية لأي جسم يقترب منه، فيبتلعه، حتى ولو كان من الكواكب الدرّية، (في الفضاء أو في المعارضة السياسية والعسكرية أو الإعلام)..

تلك القوى لم تتورّع يوماً عن استهداف من بقي من الثوار، اغتيالاً وقتلاً مباشراً واعتقالاً وتعذيباً، فموتاً تحت التعذيب. أولئك الثوار أنفسهم، الذين يجزعون لأي ضحية من منتسبي النصرة، يعرفونه ويعرفون أهله، ما لم يكن أخاً لهم أو ابن عم، هم أهداف "شرعية" لقوى التطرف والإرهاب. فهل ينبغي أن نتابع الصمت والتواطؤ، لأن مقاتليها يلحقون أذىً بالخصم الرئيس؟! وهل نتحمّل وزر تاريخ ومستقبل يتسرب من بين أصابعنا؟!

هاهم ذريعة لقصف الطيران الروسي القاتل لمدة 72 ساعة متواصلة بمئات الغارات على مدينة خان شيخون، وهاهم ينهزمون أيضاً، ليتراجعوا تدريجياً باتجاه إدلب: حصنهم الأخير الذي يحرصون عليه، بين مئات الآلاف من المدنيين. فهل ننتظر المزيد من أخبار الكوارث؟ وهل بقي في جسم سوريا المثخن بالجراح مكان لضربة أخيرة حاسمة؟!

ربما ليس الوقت مناسباً للتأمل والتفكير والمراجعة، أو ربما لا مجال لذلك أيضاً، فالناس يحصون ضحاياهم، أو يفتشون عن مأوى في أي فلاة تحت سماء بلدهم، ولكن، متى نفعل إذن، وكل يوم يمرّ يحمل المزيد من الموت والدمار وضياع البلد؟! لم ينتصر النظام ولن ينتصر بالتأكيد٬ ولن ينتصر السوريون أيضاً ما لم يحرروا منطقهم من أية ثوابت معيقة، ويتوجهوا نحو الجهة المقابلة لذلك الثقب الأسود، لعلّهم يعقلون! بل ربما أصبح مفهوم النصر والهزيمة نفسه محلّاً للتساؤل والتشريح!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024