"عندما أسمع عن فكرة مجلس عسكري يتسلم السلطة في سوريا، بدني يقشعر.. يقشعر"، كان هذا جواب الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي على سؤال للكاتب في ندوة حوارية عن مقترح المجلس العسكري الذي يدور الحديث عنه بين السوريين، وعن إمكانية نجاحه وخطورته على الثورة وتضحيات الشعب السوري.
وأضاف المرزوقي حينها "مصيبتنا ومصيبة هذه الأمة هي الأنظمة العسكرية التي من المفترض أن الجيوش فيها هم حماة الديار وأن يكونوا في مواجهة العدو الصهيوني، ولكنها أصبحت في كل البلدان العربية تقريباً أداة السيطرة للطبقات الفاسدة على الشعوب، ولكن مع التفريق بين حكم العسكر وبين الجيش الوطني المنضبط الذي ليس له أطماع بالحكم"، محذراً من ارتكاب هكذا خطأ بالعودة إلى حكم العسكر، وأنه لابد من سلطة مدنية يدعمها الجيش.
جواب الرئيس المرزوقي كان الدافع لكتابة هذا المقال وتوضيح الملتبس بين المجلس العسكري وأهميته ومهامه وضرورته في الحالة السورية، وبين حكم العسكر الذي جلب الويلات والكوارث للبلدان العربية منذ استقلالها وحتى الآن.
في ظل الوضع المضطرب والمأساوي ومضي أكثر من 8 سنوات على وثيقة جنيف، وخمس سنوات على صدور القرار الأممي 2254، ومأساة السوريين ما زالت تتفاقم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، ووحدة البلاد مهددة أكثر من أي وقت مضى، أصبح الوصول إلى هيئة الحكم الانتقالي في سوريا بعيد المنال، بعد تماهي المعارضة مع المبعوث الدولي السابق ستيفان دي مستورا بالالتفاف على القرار 2254 والتفريط به لصالح العملية الدستورية التي استغرق تشكيل لجنتها حوالي السنة ونصف، ومضى على بدء أعمالها مثل ذلك، دون كتابة مادة واحدة، أو الاتفاق على جدول زمني لعملها، وأصبح واضحاً للقاصي والداني عبثية استمرارها، لذا كان لا بد من التفكير بالخروج من هذا الاستعصاء، وتحريك المياه الراكدة، فكان مقترح المجلس العسكري القديم المتجدد.
في ظل الظروف التي تمر بها سوريا يُعتبر تشكيل مجلس عسكري ضرورة لقيادة المرحلة المقبلة وإنهاء المأساة السورية، وربما يكون مفتاح خارطة طريق مقنّعة للسوريين وللمجتمع الدولي والدول النافذة في الملف السوري، والمخرج المناسب بعد انسداد أفق الحل السياسي وفشل عمل اللجنة الدستورية.
لكن السؤال المطروح الآن: هل فعلا تبلور مشروع المجلس العسكري؟ وهل أقتنعت الولايات المتحدة وروسيا وبقية الأطراف الفاعلة في الملف السوري أنه حاجة ضرورية للحفاظ على وحدة سوريا ومكوناتها ونسيجها الاجتماعي ومؤسسات الدولة السورية من الانهيار؟
والسؤال الأهم الذي يتبادر إلى ذهن كل سوري: هل سيكون هذا المجلس بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالي النصوص عليها في بنود القرار 2254؟ أم سيكون تطبيقاً للنموذج السوداني بحيث يكون إلى جانبه مجلس سياسي لقيادة المرحلة الانتقالية؟
رغم تخوف الشعب السوري الذي كره ذكر حُماة الديار حتى في نشيده الوطني، والذي انكوى بنار حكم العسكر منذ أول انقلاب عسكري والقضاء على الحياة الحزبية والسياسية وإيصال البلاد إلى ما وصلت اليه من كوارث، إلا أن الكثيرين يتطلعون لمن يخلّصهم من هذا الوضع ويحقق لهم الانتقال لمرحلة ما بعد بشار الأسد وفرض الأمن والاستقرار.
إن تنظيم الوضع العسكري هو أحد أهم شروط الانتقال السياسي من نظام الاستبداد إلى دولة القانون، على أن يتم بناء المؤسسة العسكرية على أسس مهنية ووطنية، وفي هذا الإطار يتوجب علينا معالجة المسائل التالية:
أولاً، أن يتم تضمين فكرة المجلس العسكري ومشروعه وضع حدود واضحة بين السياسة ومقتضياتها وبين العسكرة ومواصفاتها، فالتجربة الوطنية السورية منذ الاستقلال وحتى الآن كشفت عن علاقة ملتبسة بين الحقلين السياسي والعسكري، ولطالما تمّ استخدام العسكر لأغراض حزبية وفئوية، ما أدى إلى إفساح المجال لتدخل الجيش في السياسة وصولاً للهيمنة عليها، ولمعالجة هذه المشكلة المزمنة يتوجب وضع أسس واضحة لبناء منظومة عسكرية تكون في خدمة بناء الدولة والدفاع عن سيادتها وحدودها، وليس توظيفها في الصراعات السياسية.
ثانيا، أن يكون واضحاً في المشروع إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية وفق أسس مهنية تقطع وتنهي بصورة تامة مع التجاذبات الطائفية والولاءات المناطقية أو غيرها، وكل اعتبار يؤدي إلى إضعاف وتمزيق النسيج الوطني، فقد كشفت دروس علاقة النظام السوري بمؤسسة الجيش والأمن استخدام الأول لتلك المؤسسات من خلال إضفاء الطابع المذهبي والطائفي عليها لأغراض سلطوية أدت إلى نتائج خطيرة وانحرافات كبيرة حالت دون بناء مؤسسة عسكرية وطنية تحمي الشعب وتدافع عن حقوقه ومصالحه، ولا أدلّ على ذلك من زج النظام لهذه المؤسسة في معركته الدموية ضد الشعب السوري.
ثالثاً، أي انتقال سياسي يؤدي إلى تغيير حقيقي في سوريا يستوجب إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وفق متطلبات تحقيق هذا الانتقال نحو دولة المواطنة والقانون.
ورغم أنه من غير المتوقع حتى الآن أن هناك توافقاً دولياً على هكذا طرح، فسياسية الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه سوريا لم تتبلور بعد ومن غير المرجح موافقة وقبول روسيا حتى الآن باستبدال الأسد قبل وضوح الرؤية الأميركية وإنجاز كامل التفاهمات، إلا أنه في حال قُدّر لفكرة تشكيل مجلس عسكري أن تبصر النور في هذه المرحلة، فإنه يجب التركيز على ضرورة مطلقة غير قابلة للنقاش وهي أن لا يكون مجلساً حاكماً، بل نواة لمؤسسة عسكرية وطنية تحت سلطة مجلس سياسي مدني يدير البلاد بعد سقوط نظام الأسد، ويكون له مهام واضحة المعالم بتراتبية عسكرية، خاضع للقانون ومطمئن للشعب السوري وللمجتمع الدولي وهي كالتالي"
- إعادة الأمن وتوفير بيئة الاستقرار في سوريا.
- إصلاح المؤسسة العسكرية وإعادة تأهيلها وتمكينها من القضاء على الإرهاب وتفكيك الفصائل المحلية التي نشأت خلال الصراع وإعادة دمجها ضمن هيكلية مهنية صرفة، وجمع السلاح واستعادة سيادة الدولة.
- إخراج كل الميليشيات الأجنبية والمقاتلين الأجانب خارج سوريا.
- الحفاظ على السلم الأهلي وفرض السيادة الوطنية التي فرّط بها النظام وحماية الدستور لا الانقلاب عليه.
- إجراء المصالحة الوطنية وتهيئة البيئة الآمنة والمحايدة لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية تحت إشراف الأمم المتحدة، ضماناً لحياديتها ومصداقيتها.
- الحفاظ على مؤسسات الدولة ومنع انهيارها، ومنع وقوع حرب أهلية.
- إطلاق سراح كافة المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين قسراً، وتهيئة المناخ لإقامة بيئة آمنة لعودة اللاجئين والشروع بانتخابات نيابية ورئاسية.
- إعادة بناء إدارة التوجيه المعنوي على أسس وطنية ومهنية تجعل منها أداة لإنفاذ الدستور وحمايته وليس عبئا عليه.
كل ما يثار الآن عن المطالب بتشكيل المجلس العسكري رغم أن هدفها غالباً الحرص على إنهاء الصراع في سوريا والذهاب نحو حالة الاستقرار، إلا أنها تأتي وكأنها منفصلة عن السياق العام لمرحلة الانتقال السياسي، مما أدى إلى خلق تشويش حيال الفكرة بحد ذاتها، ولذلك اعتقد من وجهة نظري كضابط منشق أنه يجب أن يتمّ التركيز على وحدة المسار السياسي المتوافق مع القرارات الدولية بحيث يكون أي تشكيل عسكري منضبط ضمن مراحل الانتقال السياسي وخطواته التسلسلية كي يتمّ انتظام هذه المؤسسة ضمن الرؤية الوطنية وبما يخدم أغراضها وأهدافها.