ألكسندر دوغين: راسـ"بوتين"

مازن عزي

الجمعة 2016/03/04
في مقابلة تعود إلى مطلع العام 2014 مع ألكسندر دوغين، قال بإن الحل مع الأوكرانيين هو: "اقتل، اقتل، اقتل، يجب ألا يكون هناك أي نقاش، كأستاذ أقول لك ذلك". المقابلة أحدثت تململاً في بعض أوساط الإنتلجنسيا الروسية. وجَمَعَت عريضةٌ تطالب بإقالة دوغين من رئاسة قسم علم الاجتماع في جامعة موسكو أكثر من 10 آلاف توقيع. المشكلة الوحيدة في تلك العريضة أن موقعيها اعتقدوا بأنه من الفظاظة أن يتحدث استاذ الجامعة بهذة الطريقة. لكن دوغين، لم يكن ليعطي تلك الوصفة السحرية للحل الروسي في أوكرانيا، من موقعه كأستاذ جامعي، بل بوصفه مُعلم النخبة الروسية الحاكمة، وصاحب النفوذ الهائل على الرئيس فلاديمير بوتين، وصائغ القوة المفاهيمية لمبادراته.

دوغين، المولود في العام 1962 لأب كولونيل في الاستخبارات العسكرية السوفياتية، طرد من معهد موسكو للطيران في العام 1979، لحمله أفكاراً مناهضة للسوفيات. ومن وقتها بدأ يطور مفهوم "أوراسيا" كمجال نفوذ جيوسياسي لروسيا الأرثودوكسية، ومعارضاً للقشرة الرقيقة الخاصة بديكتاتورية البروليتاريا التي سيطرت من خلالها نخبة الحزب الشيوعي السوفياتي على الحكم. وأوراسيا هي مفهوم يعود إلى مجتمع المهاجرين الروس البيض الأوائل بين العامين 1917 و1920، الهاربين من الشيوعية، والحالمين بامبراطورية أرثودوكسية.

أوراسيا هي مفهوم سلبي يُعرّفُ بالنفي للعدو المشترك لأعضائها: "العدو اﻷطلسي"، أو ما يسميه دوغين أحيانا بالقوة البحرية مقابل القوة اﻷرضية للامبراطورية الروسية. أوراسيا، بحسب لغة دوغين، هي المنطقة المعدة للثورة ضد اﻷميركيين، ضد البرجوازيين، الرافضة للقيم الليبرالية. هي النبض الحضاري المشترك الذي سيولد الأساس للوحدة الاستراتيجية السياسية.

لدوغين لحية طويلة محيرة، لا هي بالمشذبة ولا المرسلة. لحية تناسب مُنظراً محافظاً يَصِفُ الحركات السياسية التي أنشأها؛ تارة بالفاشية وتارة بالمحافظة. إلا أن الأصيل فيها هو نزعتها المسيحية القومية، ذات السمات الشمولية، في عهد ما بعد الحرب الباردة.

ورغم انهمامه النظري، وتأليفه لأكثر من 30 كتاباً، يسيطر دوغين بشكل شبه احتكاري على الطيف الإيديولوجي الروسي عبر المجموعات التنظيمية اليمينية التابعة له والدائرة في فلك نظرياته. وتنتجُ تلك المجموعات، كمية هائلة من الكتب والمجلات، وتمتلك منصات إعلامية كثيرة، يصعب تمييزها عن بعض.

أوراسيا هي ركن الصراع الجيوسياسي الذي يخطط له دوغين، ويكرس وقته وجهده كي ينفذه بوتين. دوغين هو الشخص الوحيد في روسيا الذي ينظر إلى بوتين بمزيج من الشفقة والحب، ويعتبره أضعف من أن يكيل للخصوم ضربات موجعة. انتقده في جورجيا، على خطوط التماس، وشن هجوماً على ضعفه قُبيل الحرب الأوكرانية، مع الانفصاليين الأوكران.

دوغين، الذي يُوصفُ بـ"راسبوتين"، في مزيج من شعوذته الخلاصية، نحت مفهوم "الطابور السادس" ليناسب حاشية بوتين: تلك الطواقم المحابية للغرب التي تضغط على زعيم اﻷمة، حائز التأييد الجماهيري الهائل، كي يُدخل اصلاحات ليبرالية، أو كي يَخفُضَ منسوب التوتر مع الدول المجاورة. دوغين وصف معارضي بوتين بـ"المرضى العقليين"، ودعا إلى نزع الجنسية الروسية عنهم وطردهم من البلاد.

دوغين الذي يمجد بوتين ويحتقره، يرى في النخبة السياسية الروسية عقبة يجب تدميرها. ويُعتقد بأن نفوذ دوغين، قد أسفر عن استبعاد وزير الدفاع الروسي عن قرار ضم القرم إلى روسيا، وكما يتم حالياً استبعاد وزير الخارجية الروسي عن الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس، في حين يُجاهد حاكم مصرف روسيا بائساً للقاء بوتين. راسبوتين روسيا الجديد، يعمل على عزل بوتين، وابقائه في فقاعة بعيدة، كي يتسنى له وحده التأثير عليه.

لدوغين شعوذات لا تنتهي، ويقترب فيها من جوهر اﻷرثودوكسية الخاصة بطائفته "Old Believers" المنشقة عن الكنيسة الأرثودوكسية منذ منتصف القرن 17. فدعا مثلاً إلى حظر الإنترنت عن الروس، قائلاً: "الله ضد الإنترنت"، كما اعتبر في مقابلة مصورة أن الفيزياء والكيمياء علوم شريرة.

هرطقة دوغين، وانتقائيته، هي الأكثر أصالة في بنائه الفلسفي، فهو المعادي للشيوعية، ساهم في كتابة البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي "إعادة التأسيس" بقيادة جينادي زوغانوف، بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي. وأسس لاحقاً "الجبهة البولشوفية الوطنية". ثم هلل لاحقاً لعودة "الفاشية اﻻصيلة الحقة الثورية الجذرية المتساوقة" إلى روسيا.

كما أن دوغين المعادي للغرب، يعتبر أحد القلائل الذين اعتبروا المخزون العقائدي للقوميين الروس منخفض القيمة، ويجب احياؤه بمساعدة الأفكار الغربية. تناقض لا يمكن فهمه إلا في إطار أرثودوكسيته الأرثودوكسية، التي تدفعه للتصرف كوسيط بين القومية الروسية المنغلقة على ذاتها، ومسيحيته الطهرانية، ومخزون التطرف الغربي. ذلك دفعه لاستلهام نظريات الألماني كارل شميت، منظر النازية، حول النظام العالمي المحافظ. تلقيح فاشي لقومية-دينية يخدم هدفاً واحداً: استعادة الإمبراطورية الروسية الأرثودوكسية.


لماذا نحارب في سوريا

في تشرين الثاني 2015، نشر دوغين مقالاً بالألمانية في جريدة "Zuerst"، ولخص فيه أهداف الحرب الروسية في سوريا بالقول: "الجبهة اليوم مفتوحة بين الأوراسيين والأطلسيين في سوريا".

الحرب بين الطرفين، تعيش معركتها الثالثة، بحسب تقويم دوغين؛ حرب الشيشان الثانية، ثم حرب جورجيا، والآن الحرب السورية. وتدخل روسيا العسكري في سوريا، أو كما يسميه دوغين "تقديم دعم عسكري روسي إلى سوريا"، هو فعل جيوسياسي لأوراسيا. فـ"الدولة الإسلامية" كمنتج أميركي، هي خطر مباشر على روسيا، و"اذا لم نحتوِ ما خلقته الولايات المتحدة ودعمته من إرهاب في سوريا، فعلينا قريباً أن نقاتله على حدودنا، وحتى ضمن أراضينا".

انهيار سوريا بحسب دوغين سيولد انهياراً متتابعا "تأثير الدومينو" على جميع الدول الإسلامية في المنطقة، وملايين اللاجئين سيغزون أوروبا لأنهم لن يعودوا قادرين على العيش في الفوضى. تلك الفوضى المخلوقة أميركياً، هي موجهة مباشرة ضد أوروبا، كي يُحدث اللاجئون عدم استقرار في البنية التحتية الاجتماعية لأوروبا، وبالتالي العمل على شلّ القارة العجوز سياسياً.

تلك المنطلقات النظرية المقلوبة رأساً على عقب، لفهم الوقائع في سوريا، تصل مع دوغين إلى نتيجتها القصوى: "روسيا تقاتل في سوريا دفاعاً عن مصالح أوروبا". وفي ذلك استمرارية تاريخية، كما يغمز دوغين: في السابق نظرت روسيا إلى أوروبا كدرع ضد التمدد العثماني-التركي، واليوم روسيا، وهي تقاتل ضد طموحات الهيمنة الأميركية في سوريا، هي الدرع للقارة الأوروبية.

وكان دوغين قد قال في مقابلة صحافية سابقة على التدخل العسكري الروسي، بإن قبول الولايات المتحدة بالدور الروسي في سوريا سيكون نهاية لأميركا كقوة عظمى فائقة. أما عدم تدخل روسيا وخيانتها للرئيس الشرعي المنتخب بشار الأسد، فسيعني تعميق هزيمة القوة البرية، وانهاء الهوية السياسية الأوراسية. وستكون الهجمة التالية للقوة البحرية على إيران وشمال القوقاز. تسليم سوريا للأميركيين هو انتحار جيوسياسي لروسيا.

دوغين يُشبه المعركة في سوريا بلعبة "بوكر"، تمارس فيها أميركا ضروب الإيهام النفسي على بوتين، لكن بمجرد اندلاع الحرب، فجميع الأوراق ستصبح على الطاولة. دوغين بدوره، مارس كامل صنوف الايهام النفسي على بوتين، لجعل الحرب ذات معنى استراتيجي لمشروع متخيل. وهو اذ يهزأ من أوباما، معتبراً إياه منفذاً لسياسات أميركية خارجية لا أكثر، يقول في المقابل إن "بوتين هو كل شيء". فبوتين المحبوب جماهيرياً، في هذه الحرب هو بلا نخبة سياسية تسانده، لذا فهي حربه الشخصية.


أسس الجيوسياسة

في كتابه المعنون "أسس الجيوسياسة: المستقبل الجيوسياسي لروسيا"، الصادر بالروسية في العام 1997، أعلن دوغين بأن المعركة للسيطرة على العالم من قبل الروس لم تنته بعد. الكتاب الذي تحول إلى منهاج دراسي في الأكاديميات العسكرية الروسية، سرعان ما ألهم النخب العسكرية والأمنية الروسية، وقاد عملية تغيير مفاهيمية لدى موظفي الخارجية.

الكتاب الذي ساهم في تطوير فرضيته جنرالات روس، يقوم على مزيج من التصورات القيامية ذات المنشأ الأرثودوكسي، والفاشية الوطنية الروسية المحافظة. وهو يسعى إلى إقامة وجود قاري جديد لـ"أوراسيا"، كامبراطورية متخيلة تمتد من دبلن غرباً إلى فلاديفوستوك شرقاً، جوهرها روسيا اﻷرثودوكسية.

الكتاب الرؤيوي، تحول من تنبؤات، إلى دليل عمل، تُنفذ تعاليمه اليوم على الأرض. دوغين يُنظرُ لإقامة حلف روسي-ألماني، والسماح لبرلين بالهيمنة على الدول البروتستانتية والكاثوليكية في أوروبا الشرقية والوسطى. ويجب تشجيع فرنسا على إقامة تحالف مع ألمانيا، نظراً للتقاليد العريقة لدى البلدين في مناهضة اﻷطلسيين. وفي هذا المسعى يجب عزل بريطانيا عن أوروبا، وإخراجها من الاتحاد الأوروبي، وتعزيز النزعة الانعزالية لدى الأميركيين، وإغراقهم في مشاكل داخلية ذات علاقة بالتطرف والإثنيات، وخاصة الأزمات العرقية المرتبطة بالسود. دوغين أعلن في شباط/فبراير 2016 دعمه للمرشح الجمهوري دونالد ترامب.

دوغين يقول بإن تلك الامور يجب أن تنفذ لا من خلال أعمال عسكرية، بل من خلال القوى الخشنة، عبر تبني الأجهزة الروسية الخاصة برنامجاً من التخريب وبث عدم الاستقرار وتشويش المعلومات. المركزي في العمليات الروسية، هو استخدام الغاز والنفط ومصادر الطاقة الروسية، للتنمر على الدول الأخرى. والغاية النهائية لدوغين هي تحويل أوروبا بكاملها إلى نموذج فنلندا الواقعة تحت الهيمنة الروسية، أي "فنلدنة أوروبا".

في مقابل التنازلات للألمان، يتوحب على روسيا، امتصاص فنلندا، واجبار رومانيا ومقدونيا والبوسنة وصربيا واليونان على التوحد مع موسكو، التي يسميها دوغين "روما الثالثة"، في اطار المجموعة الأرثودوكسية الشرقية.

أوكرانيا، لا معنى جيوسياسياً لها، وهي خطر محدق على "أوراسيا". لذا ينبغي على موسكو احتلال أوكرانيا بالكامل وعدم التوقف قبل الوصول إلى كييف. دوغين قاد مجموعات شبابية عرفت باسم "حركة شباب أوراسيا" خططت لاقتحام البرلمان في كييف، وهو على علاقة شخصية بزعماء المليشيات الانفصالية في لوهانسك ودونيتسك. وكان قد نصح المتمردين المدعومين من موسكو بإقامة جمهورية "روسيا الجديدة" شرقي أوكرانيا.

الكتاب، يركز على تحالف موسكو-طهران، نتيجة "التشابه في الحضارتين الاسلامية والروسية". ولذلك يجب اقامة تحالف بين موسكو وطهران ويرفان عاصمة أرمينيا، في مواجهة أنقرة. دوغين الذي يحمل كرهاً تاريخياً لتركيا، رغم أنه نظر سابقاً لتحالف سلافي-تركي، يرى بأن موسكو يجب أن تفتت تركيا عبر دعم اﻷكراد واﻷرمن وبقية الأقليات. فالشعوب اﻷرية على غرار الإيرانيين والأكراد هم المتفوقون عرقياً، ممن يستأهلون دولة-قارة كأوراسيا.

لدوغين صوت عميق بارد، يعكس أفكار المُنظّر الروسي الأبرز منذ عقدين. حضوره طاغ ومهيمن، ووجوده هو حلول الفكرة في الجسد، كحلول الألوهية في المسيح. يشتعل ولا يلتهب، ينفصل رويداً رويداً عن بشريته لصالح أفكار لم تعد تلحظ وجوداً للبشر في خرائط فارغة، من أوكرانيا إلى سوريا، خالقاً "محيط روسيا الصحي". دوغين بات نموذجاً لانفصال الفكرة عن منشئها، لانفصال الرأس عن الجسد. كيف لا وقد صار رأساً لشخص أخر: رأس بوتين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024