المركز العربي-باريس:البلدان العربية مختبر للديموقراطية

المركز العربي للابحاث

الأحد 2019/12/01

عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فرع باريس،الخميس الماضي، مؤتمره السنوي الثاني، بعنوان "ديمقراطيات في طور التشكل: البلدان العربية بوصفها مختبرًا لتحولات سياسية جديدة"، وذلك بالتعاون مع الكوليج دو فرانس.

وعالج المؤتمر الانتقال الديمقراطي عربيًا بعد الردات المحلية والإقليمية عقب 2011، وما يمكن أن تقدّمه المسارات السياسية الجارية في الدول العربية إلى الأفكار الديمقراطية ونظريات الانتقال الديمقراطي والحركات الاجتماعية، ومسألة تغلّب الدولة على الشروخ الطائفية والإثنية قبل الانتقال، وتقييم مدى قدرة الانتقال الديمقراطي على إيجاد حلول لها من خلال مؤسسات النظام الديمقراطي. وطرح المؤتمر تعامل القوى الديمقراطية مع الجيوش وامتيازات العسكر لتجنب الصدام معهم في مرحلة الانتقال. كما يبحث في التجارب الديمقراطية الحاصلة في المغرب والمشرق العربيَين مع تطور الحركات الاجتماعية في الضفة الشمالية للمتوسط.

وأمام التعب الذي يُصيب الديمقراطيات القديمة في أوروبا (صعود الشعبوية، ومعاداة الأجانب، والامتناع عن التصويت، وأزمة التمثيل، والحمائية والأمنية، والتخلي عن القيم المؤسسة..)، سعى المؤتمر إلى استخلاص دروس من الربيع العربي حول معنى الديمقراطية، واستشراف ظهور ممارسات ديمقراطية وسياسية جديدة عربيًا قادرة على التجديد في العمق للمقاربات الماكرو سياسية التي تسيطر على المجال البحثي حول تلك المسائل، وتؤثر من ناحية أخرى في مسار الحراك الموازي في أوروبا.

عزمي بشارة محاضرًا في الكوليج دو فرانس حول إشكاليات الانتقال الديمقراطي عربيًا
استُهل المؤتمر بمحاضرة افتتاحية قدّمها المفكر العربي والمدير العام للمركز العربي، الدكتور عزمي بشارة، تناولت مسألة الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية وما يرتبط بها من إشكاليات نظرية وعملية. وتعدّ هذه المسألة الأطروحة الرئيسة لكتابٍ عكف بشارة على كتابته، ويستعد المركز لإصداره قريبًا، يبحث في الانتقال الديمقراطي نظريًا، ويستخلص نتائج نظرية عبر قراءة نقدية متأنّية وجادّة لتجارب الربيع العربيّ وأسباب إخفاقها/ نجاحها.

نوّه بشارة في البداية إلى أنّ بحثه في الانتقال الديمقراطي يهدف إلى تعميم التجربة العربية؛ ذلك أنّ الباحث العربيّ لم يعد يقبل أن تكون الدراسات الخاصة بالمنطقة العربية مجرّد "دراسة مناطق" في الوقت الذي يقوم الباحثون في الغرب بتعميم نتائج بحوثهم، على الرغم من أنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية بدأت في بلدان كفرنسا وألمانيا بوصفها دراسات مناطق، جرى تعميمها على بقية العالم. كما أنّ الكثير من نظريات التحوّل الديمقراطي ترى حالات الانتقال الديمقراطي بعيون التجربة الإسبانية.

وانتهز بشارة الفرصة لتقديم ملاحظات نقدية حول ما يسميه "الموجة الثانية" من ثورات الربيع العربي التي تدور في كلٍ من السودان والجزائر والعراق ولبنان. واعتبر أنّ ما يجري في العراق ولبنان في ظروفٍ كالتجربة السورية، والتخوف الغربي من تكرار هذا النموذج، في حالة نجاحه في العبور نحو الديمقراطية، يعدّ بمنزلة تحدٍّ للفرضية التحديثية القاضية بصعوبة الانتقال في مجتمعات منقسمة، دون أن يفنّد فرضية نظرية التحديث القاضية بأنّ الانتقال في مجتمعات منقسمة يمكن أن يؤدي إلى احتراب، والثورة السورية أكّدت ذلك.

وضع بشارة الظرف الراهن في لبنان والعراق تحت عنوان "المواطنة"؛ أي رفض الطائفية كمنظّم للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وأن يشتق الفرد حقوقه من كونه مواطنًا في دولته، وليس كونه من طائفة أو إثنية أو أقلية. وانتبه الباحث إلى أنّ التأكيد على المواطَنة يأتي من الأسفل أي من المجتمع، في الوقت الذي تؤكّد فيه النخب على الطائفية. ما يعني أن الثقافة السياسية للنخب تبدو متخلفةً إذا ما قورنت بالثقافة السياسية المواطنية للشعوب، التي تقود في لبنان والعراق ثورة ثقافية وسياسية في آن واحد، معتبرًا أنّ عملية إطاحة النظام صعبة بسبب تعدد رؤوسه، لكنّ المهم، برأيه، هو أنّ هذه العملية قد بدأت.

ورأى بشارة أنّ العديد من الباحثين ينطلقون في دراسة التحوّل الديمقراطي من نظرية التحديث، والتي تعاملت مع هذه المسألة من زاوية الانتقال من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة، وفهم المجتمع الحديث والشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من مجتمع ما "مجتمعًا حديثًا" قابلًا للتحوّل نحو الديمقراطية، وأرّخ عملية الربط بين التحديث والديمقراطية ببداية الحرب الباردة؛ حيث إنّ نظريات الديمقراطية نشأت خلال هذه الفترة، وذلك لتؤدي دور الشارح والموضح لمميزات النظام الديمقراطي ومعايير تميّزه وتفوّقه أخلاقيًا في إطار الصراع بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي. وخلال سبعينيات القرن الماضي حصل تطور مهمّ في نظر بشارة في منطقة جنوب أوروبا، تلته موجة الانتقال في أميركا اللاتينية، ممّا مهّد لنشوء دراسات التحول الديمقراطي، التي اعترض باحثوها على نظريات التحديث من منطلق ديمقراطي ليبرالي، وليس من منطلقات يسارية كما ذهبت إليه نظرية التبعية.

بحسب بشارة، رأت دراسات التحول الديمقراطي في ما يسمّيه التحديثيون "شروط التحديث"، أي الشروط المسبقة للتحديث بمنزلة نتائج للديمقراطية. واعتبر أنّ هذه الشروط تخدم فرضية "عدم جاهزية الشعوب للديمقراطية"، وهي فرضية استعملتها الولايات المتحدة لتبرر علاقاتها بدول حليفة تحكمها أنظمة استبدادية. وعقب نهاية الحرب الباردة تغيرت هذه السياسة، عدا في المنطقة العربية التي يرى بشارة أنّ الحرب الباردة لم تنته فيها، رغم نهايتها في كلّ مكان في العالم، ذلك أنّ المعسكر الغربي لا يزال يدعم الدكتاتوريات. وعدّد ثلاثة أسباب لذلك، هي: أمن إسرائيل، والنفط، وكذا التخوّف الغربي من وصول إسلاميين إلى السلطة.

وعقب نهاية الحرب الباردة نسفت دراسات التحول الديمقراطي فرضيات التحديث الأولى، ومع ذلك لا يمكن بحسب بشارة إغفالها عند الحديث عن ترسيخ الديمقراطية، الأمر الذي يحتاج إلى تنمية اقتصادية، ومستويات عالية من التعليم.

وعند تعرّضه لثورات الربيع العربيّ، اعتبرها بشارة ثورات عفوية، طالبت بمحاربة الفساد وربطته بالاستبداد على مستوى الأنظمة السياسية. وقد أولى الباحث أهمية قصوى لمسألة الكرامة الإنسانية والإذلال والاعتداء جسديًا على الإنسان؛ ذلك أنّ دول الربيع العربي حكمتها أنظمة استبدادية لا تحترم حرمة الجسد الإنساني. ولعلّ السبب المفجّر للثورة التونسية، وتاريخ تفجّر الثورة المصرية، بمنزلة مؤشرين على أهمية هذا البعد. وفي ما يخص الإضافة النظرية لثورات الربيع العربي فتتمثل بكونها "ثورات إصلاحية"، أي إنّها لم تقم بإسقاط النظام، وإنّما طالبت بذلك فقط، كما أنّها لم تطرح بدائل منه. وما يفسّر عدم قدرة نظرية التحوّل الديمقراطي على تفسير النماذج العربية، هو انطلاقها من النموذج الإسباني، وقراءتها لعملية الانتقال بطريقة خطية تنطلق من الإصلاح نحو الميثاق، مرورًا بالشرخ على مستوى النظام، وعملية المساومة بين أطرافه. ولم تعر هذه النظريات مسألة الثورة اهتمامًا؛ ذلك أنّ العالم لم يشهد ديمقراطية نتجت من ثورة بما في ذلك الثورة الفرنسية.

واعتبر بشارة أنّ اليمن وسورية وليبيا لم تشهد انتقالًا ديمقراطيًا، على الرغم من خوض الأطراف اليمنية غمار حوار وطني راقٍ برعاية الأمم المتحدة أُجهض بتدخّل إقليمي. وفي سورية حصل ذلك، بسبب القمع العنيف المتميّز بالاستمرارية والمثابرة وعدم وجود قيود حوله، وعدم مثابرة حلفاء سورية في دعم الثورة، وعدم امتلاك المعارضة السورية لبديل سياسي واضح، إضافة إلى المثابرة والتدخل المباشر لإيران وروسيا وصعود نبرة إسلامية متطرفة في أوساط الفصائل السورية، أنتجت خوفًا لدى الأقليات، شكّل لاحقًا ما سمّي بـ "تحالف الأقليات". وفي ما يخص الحالة الليبية، فقد فشل الانتقال بسبب عدم وجود مؤسسات، ورفض الفصائل التخلّي عن سلاحها، معطوفين على عامل التدخّل الأجنبي، والاستعجال في خيار الانتخابات الذي لا يعدّ حلًّا ملائمًا في كل الحالات.

وأمّا الحالتان اللتان عرفتا تحولًا ديمقراطيًا، فهما الحالة المصرية والحالة التونسية. وقد فنّد بشارة قدرة الفرضيات التحديثية على تفسير نجاح النموذج التونسي وفشل النموذج المصري، كالتركيز على الدخل والتعليم ومستوى المعيشة، مشيرًا إلى أنّ دراسته توصلت إلى ثلاثة عوامل تحكّمت في مجريات التحوّل، وهي:

  1. الثقافة السياسية للنخب (وليس الثقافة السياسية للجماهير): كانت قادرة على المساومة في الحالة التونسية واقتسام السلطة في مقابل دخولها في عملية استقطاب وسعيها للانفراد بالسلطة في دولة تعرف انتقالًا في الحالة المصرية.
  2. الطموح السياسي للجيش: الجيش المصري يملك طموحًا سياسيًا، في الوقت الذي لم يتدخل الجيش التونسي في السياسة.
  3. الأهمية الجيوستراتيجية للدولة: مصر دولة متاخمة لإسرائيل، ويمكن لديمقراطيتها أن تنتشر نحو الخليج، في الوقت الذي لم تأبه الدول الكبرى لديمقراطية تونس بسبب بعدها عن إسرائيل، وعدم وجود ثروات فيها.


أربع جلسات حول التحولات الديموقراطية عربياً بوصفها مختبراً لتحولات سياسية جديدة
تضمّنت الجلسة الأولى بعنوان "البحث العلمي حول التحول الديمقراطي في العالم العربي: معطيات جديدة وتجديد للمقاربات"، ثلاث مداخلات برئاسة كلير تالون؛ تناولت المداخلة الأولى الدروس المستقاة للعلوم الاجتماعية من الثورات العربية، ودروس هذه الأخيرة من نظريات العلوم الاجتماعية قدّمها ستيفان لاكروا. وقدّم محمد ولد محمودي مداخلة حول إعادة التفكير في نموذج التحول السياسي في العالم العربي، واختتمت الجلسة بمداخلة لجليلة السباعي بعنوان "بحثًا عن نظام سياسي عربي إسلامي كنموذج: ما حصة الميراث الاجتماعي السياسي والاجتماعي التاريخي في الثورات العربية؟".

أمّا الجلسة الثانية فقد تناولت "موجة الاحتجاجات الشعبية الجديدة: مسارات ورهانات". وتدخّل فيها أربعة باحثين؛ إذ قدّم جان فرانسوا بايار ورقة حول مسارات الديمقراطية في العالم العربي من وجهة نظر العلوم الاجتماعية الأوروبية والدراسات ما بعد الاستعمارية؛ وقدّم عبد الوهاب الأفندي بحثه في المعرفة والذاكرة في سياق ثورة ديسمبر السودانية. ثم ناقش حسني عبيدي الحالة الجزائرية في ورقة بعنوان "أيّ تحوّل للجزائر في ظل النخبة العسكرية الموجودة؟".

وناقشت الجلسة الثالثة "تعثّر التحولات الديمقراطية: أسئلة النظم التسلطية والسياسات الخارجية"؛ قدّمت فيها مورييل أسبورغ ورقة بعنوان "السياسات الأوروبية والانتفاضات العربية: الفجوة بين الخطاب والممارسة". وعرض عبد الفتاح ماضي "كيف تتعامل القوى الديمقراطية مع الحكم العسكري في المراحل الانتقالية: الحالة المصرية في ضوء التجارب السابقة في أوروبا وفي العالم؟". واختتمت لولوة الرشيد الجلسة بمداخلة بعنوان "أيّ سلطة بعد التسلطية؟ العراق نموذجًا".

وأما الجلسة الرابعة والأخيرة، فقد تناولت "الحراك الشعبي والتحولات الديمقراطية في العالم العربي وأوروبا: مقاربات مقارنة"؛ قدّمت فيها أسماء نويرة ورقة بعنوان "منتجو المعرفة في ضوء التحول الديمقراطي: حالة الانتخابات التونسية نموذجًا"، تلتها مداخلة لجيل دورونسورو بعنوان "مسألة المكونات الاجتماعية في بعض دول الشرق الأوسط للمقارنة بالدول الأوروبية ومدى تأثير ذلك في المسار الديمقراطي (أشكال الحراك، القمع…)". وختم الجلسة فرانسوا بورغا بمداخلة تناولت "ما تقوله لنا القراءات الأوروبية في الربيع العربي". ثم اختتم المؤتمر أعماله بملاحظات ختامية وخلاصة قدّمها هنري لورنس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024