الرقة.. عودة مبتسرة

ريم جبر

الأحد 2019/07/07

في ظل غياب الاستقرار الامني في الرقة، الاستياء الشعبي يتعاظم في عاصمة "الخلافة" الداعشية الآفلة. ويغذي هذا الاستياء شح مساعدات الإعمار وإمساك الأكراد بمقاليد الامور في المدينة. وعاد كثيرون الى مدينتهم ليجدوا أنها استحالت ركاماً جراء الضربات "التحالف الدولي".

ودمرت حملة التحالف الجوية بمساعدة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) 80 في المئة من المدينة بحسب منظمة العفو الدولية والمنظمة غير الربحية "إيروورز" التي تعنى برصد وتوثيق الحملات الدولية على داعش وغيرها من التنظيمات في سوريا والعراق وليبيا وتتقصى الأنباء عن الضحايا المدنيين الذين سقطوا بضربات التحالف الدولي أو الضربات الجوية الروسية. وسقط في الحملة أكثر من 1600 مدني بين حزيران/يونيو، وتشرين الاول/أكتوبر 2017.

ولا يملك شطر راجح من العائدين مبالغ يقتضيها اعمار منازلهم، وكلفة تشييد المنزل الواحد تبلغ نحو 20 مليون ليرة سورية. وتنزل الأسر العائدة في غرف مستأجرة وهي تسعى طوال الشهر كله لتأمين كلفة الايجار من جهة، وبدل الاشتراك بالمولد الكهربائي البالغة نحو 10 آلاف ليرة سورية، من جهة أخرى. وبينما أغلبية سكان الرقة عرب، يرجح تأخر عملية الإعمار كفة المآخذ على الحكام الأكراد الجدد. 


ونقلت هيلين سالون في "لوموند الفرنسية" رأي زبير شوير، مدير جمعية "إيمباكت" المحلية، في غضب السكان. فهم أرادوا الخلاص من براثن داعش، ولكن الثمن كان باهظاً. وعدد قتلى الاهالي على أيدي التنظيم ضئيل قياساً على عدد ضحايا القصف. ولكن بعد انقضاء عامين على تحرير المدينة، لا يزال مستقبل الحياة فيها قاتماً ومبهماً.  

العائدون أقل من نصف السكان
ومشكلات محافظة الرقة لا تنتهي. ومن العائدين 100 ألف نازح كانوا في مناطق يسيطر عليها النظام السوري. ومنذ انتهاء المعارك، عادت 54 ألف أسرة الى الرقة، أي 40 في المئة من السكان فحسب عادوا إلى ديارهم. وتعدد ليلى مصطفى، وهي على رأس المجلس المدني في الرقة مع مشلب الدرويش، وهو عربي من أبناء المدينة، نجاحات البلدية في عام واحد: إزالة 8 آلاف لغم من وسط المدينة ، وتشغيل 24 محطة مياه واستصلاح 220 كلم من قنوات الري، ترميم 18 مستشفى أو مركز صحي و319 مدرسة. ولكن حاجات المنطقة ضخمة في المجالات كلها: التعليم والصحة والكهرباء والنقل وترميم الجسور والزراعة.

شح التمويل... ومحاولات انتحار
المساعدات الدولية لإعادة اعمار الرقة شحيحة، على رغم أن معركة الرقة كانت دولية، وهذا لسان حال كثر من أبناء المدينة. وترى ليلى مصطفى أن تنظيم داعش قد يجد تربة له في السكان الغاضبين، لذا، أرست آلية مساعدات في إطار خطة "ستارت فوروورد". وكانت الادارة الاميركية قلصت تدخلها في المنطقة إثر اعلان الرئيس الاميركي دونالد ترمب في آذار/مارس 2018 تجميد 200 مليون دولار مخصصة لسوريا. ولكن ما لا يخفى هو رفض دول التحالف الدولي تولي الزمام بعد اندحار داعش وتحمل مسؤولية الإعمار، على ما ينبّه نديم حوري، مدير  برنامج الإرهاب ومكافحة الإرهاب في هيومن رايتس ووتش " في حديث مع صحيفة لوموند. ويقول ديبلوماسيون فرنسيون أن إحباط  أهالي الرقة خطير وقد يساهم في بروز داعش من جديد. 

وفي نيسان/أبريل 2018، خصص الرئيس الفرنسي 50 مليون يورو لتمويل منظمات غير حكومية فرنسية عاملة في سوريا، 30 منها لمناطق منكوبة في شمال شرق سوريا. والتمويل الفرنسي هو وراء فتح  أربعة أقسام تخصصية في مستشفى الرقة أبوابها من جديد. ولكن على رغم تخصيص باريس مبلغاً مماثلاً في العام الجاري لأعمال الإغاثة في سوريا إلا أن واقع الأمور لا يزال أليماً وقاتماً. فالمساعدات الدولية غير كافية. ولا يجد كثير من المنظمات غير الحكومية العاملة في الرقة تمويلاً دولياً. 

نقلت مراسلة لوموند عن محمود الهادي منسق في منظمة "هوب مايكرز" (صناع الامل) عثرات اعمال الاغاثة والمساعدة، فهو اضطر الى بيع هاتفه الخليوي لتسديد كلفة عملية جراحية يحتاجها أحد جرحى الحرب الذين يقارب عددهم في الرقة ألفي جريح، ومعاناة الناس وفقدان الأمل يحملان كثيرين منهم على محاولة الانتحار. 

الأمم المتحدة في دمشق.. ليست في الرقة
لا تملك منظمات الامم المتحدة المساهمة في إعمار الرقة. فهي تعمل من مكاتبها في دمشق، وهي مقيدة اليد في تقديم مساعدات للأراضي "المحررة". وغياب دورها في التنسيق والإغاثة الانسانية بالغ الأُثر. ويتستر عدد من المنظمات غير الحكومية التي تملك مقرات في دمشق عن عمله في مناطق السيطرة الكردية مخافة ملاحقة النظام السوري له وقطع الرواتب عن عاملي الإغاثة. ومراعاة منظمات أممية النظام السوري هو مأخذ سبق أن برز في ما بعد الهجمات الكيميائية، وندد أطباء أميركيون، أبرزهم آني سبايرو في "فورين آفيرز"، بتواطؤ مضمر بين المنظمات هذه وبين المقربين من النظام. فعلى سبيل المثل، وزعت المساعدات الغذائية الأممية في مناطق النظام وليس في المناطق المنكوبة أو "المحررة".

وكذلك، يخشى عدد من الجمعيات غير الحكومية استياء تركيا التي ترفض بروز منطقة كردية على حدودها. ووزن تركيا راجح في ملف اللاجئين السوريين في حسابات الدول الاوروبية، وتحديداً ألمانيا التي استقبلت نحو مليون منهم. ومع اغلاق الحدود التركية مع سوريا بين 2016 و2017، صارت الحدود العراقية هي الباب الوحيد الى أعمال الاغاثة.  وفاقم القلق اعلان واشنطن في كانون الأول/ديسمبر 2018 سحب القوات الاميركية. وكثير من المنظمات غير الحكومية بدأت تعيد النظر في برامج المساعدات وتعد للانسحاب. فمن دون مرابطة أميركية، من العسير انجاز هذه البرامج.

انسحاب أميركي
يسري قلق من احتمال سحب اميركا جنودها في أوساط قوات "قسد" وأهالي الرقة على حد سواء. فالاكراد يخشون الاضطرار إذ ذاك الى مفاوضة دمشق والتنازل عن سلطاتهم في محافظة يسيطرون على 75 في المئة منها، في وقت تمسك دمشق بمقاليد 25 في المئة فحسب منها. وأهالي الرقة يخشون انتقام النظام الذي انتفضوا عليه في 2011. ويشعر العرب أنهم غير ممثلين في إدارة مدينتهم ويرون أن من تنتدبهم القوات الكردية لتمثيلهم هم في مثابة دمى.

والسلطة اليوم في الرقة هي في يد "قسد" وليس في يد زعماء العشائر حيلة. وعلى رغم أنهم يدلون برأيهم في المجالس، إلا أن كلامهم يبقى حبراً على ورق. ولسان حال الأزمة في الرقة هي، على قول ديبلوماسيين غربيين، "السلطة كردية كثيراً، والسكان العرب كثيرين".

طيف داعش
منذ كانون الاول/أكتوبر 2018، وسبحة الاغتيالات تكر حتى في وضح النهار، وتستهدف زعماء محليين وشيوخاً ومحامين واعضاء في المجلس المدني المحلي. وهذه الاغتيالات فاقمت غضب الأهالي من الادارة الكردية، ويرون أنها مسؤولة عن الأمن وغيابه.  وتروي هيلين سالون أن ثمة نساء يتمسكن بالنقاب في الرقة مخافة داعش، وكثيرات منهن لا يخرجن بعد غياب الشمس مخافة الخطف أو القتل. وليس تنظيم داعش مصدر الخطر فحسب، بل الناس كلهم، على ما أسرت ابنة السابعة عشر ربيعاً لمراسلة لوموند. فالناس بعد أن تكبدوا الحياة في حكم داعش، لم يعودوا يخشون شيئاً، صاروا بلا وازع أو رادع، صاروا "وحوشاً".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024