البلطجة الروسية.. أبعد من إدلب

مازن عزي

السبت 2018/09/15
في إدلب، طبقات متشابكة من الصراع، من المحلي الصرف إلى الدولي، مروراً بالجهاديين والأمن القومي الإقليمي. في لحظة التصعيد القصوى، التي رافقت انعقاد قمة طهران الثلاثية، دخلت مستويات الصراع تلك في مرحلة التكاثف حد الانفجار، على الأقل ظاهرياً، قبل أن تتجه الأمور من بعدها إلى تهدئة نسبية على الأرض. لكن، كيف أمكن لإدلب أن تصبح بمثل هذه الأهمية الدولية؟

أهداف النظام من العملية العسكرية في إدلب واضحة: السيطرة على جسر الشغور وأجزاء من سهل الغاب وضواحي حلب الغربية، وتأمين طريق اللاذقية–حلب. مقارعة "الإرهابيين" ودحرهم، لم تكن يوماً في أجندة النظام وحلفائه، بل لطالما كانوا الذريعة المثالية لتدمير مناطق المعارضة باسمهم، واحدة تلو الأخرى. لا مشكلة حقيقية لدى النظام، ومن خلفه روسيا وإيران، مع "هيئة تحرير الشام" و"حراس الدين" و"الحزب الإسلامي التركستاني"، إلا لوقف هجمات بدائية بالدرونز على قاعدة حميميم العسكرية، وإبعادهم أكثر إلى الشمال السوري، ليصبحوا مشكلة حقيقية لتركيا. عدا ذلك، المعابر بين مناطق النظام ومناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" في أبو دالي في ريف حماة الشمالي وفي العيس جنوبي حلب، تشهد على ذلك. "الهيئة" حافظت على عهدها بتأمين الفوعة وكفريا على مدار سنوات من هجمات المعارضة. "الهيئة" مسؤولة عن ملاحقة كوادر من الجيش الحر، وتكميم أفواه المعارضة في مناطق سيطرتها. "الهيئة" خلقت كل الأسباب الموجبة لنبذ المجتمع الدولي لعمليات تمويل المشاريع في إدلب. ماذا يريد النظام أكثر من ذلك في هذه اللحظة؟

في لحظات غير قليلة من الصراع على سوريا، بدا واضحاً حجم التداخل الإقليمي والدولي، في حرب أهلية محلية. تدخل يظهر في لحظات يبدو الحسم فيها لأحد الأطراف غير مقبول من الآخرين. الأميركيون قتلوا 200 مرتزق روسي حاولوا الاقتراب من حقل العمر النفطي في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديموقراطية". ولا تتردد اسرائيل في قصف شحنات الأسلحة الواصلة إلى "حزب الله".

في درعا والقنيطرة، سويت المسألة بضمان روسي لإبعاد الإيرانيين، ما سمح بسرعة الحسم، وتجنب المواجهات العسكرية مع فصائل المعارضة المسلحة، بعدما تأكدت المعارضة من رفع الغطاء الإقليمي عنها. "التسوية" التي عقدت هناك، تضمنت حدّاً أدنى من الحماية لـ"فصائل التسوية"، مقابل البقاء على الأرض. خرق النظام لـ"التسوية"، واعتقال قادة الفصائل وشن حملات اعتقال ممنهجة لبقايا المعارضة في المنطقة، يظل مقبولاً في إسرائيل والأردن طالما ظل التواجد الإيراني مقيداً نسبياً في الجنوب.

في إدلب، لا تبدو الأمور بهذه السلاسة. مئات آلاف المهجرين قسراً كانوا قد وجدوا طريقهم إلى إدلب، في التصفية النهائية لجيوب المعارضة المتناثرة في الخريطة السورية. عشرات آلاف المقاتلين في "الجبهة الوطنية لتحرير سوريا" المدعومة تركياً، وبضعة فصائل جهادية إسلامية لا يتجاوز عدد مقاتليها 15 ألفاً.

ومع كل الفروق بين تركيا ومصر، تبقى إدلب أشبه بقطاع غزة، من حيث الازدحام السكاني، والحصار. حركة المدنيين مقيدة جداً مع الجانب التركي، في حين أن البضائع تدخلها بسلاسة، وكذلك الأسلحة. هناك 12 نقطة عسكرية تركية للمراقبة، على طول خطوط التماس مع قوات النظام، لكنها ليست كافية لمنع قوات النظام والمليشيات الشيعية، بدعم جوّي روسي، من اختراق المنطقة وتقطيعها إلى أجزاء محاصرة قبل الإطباق عليها. تكاليف العملية ستكون هائلة بشرياً على الطرفين، النظام والمعارضة.

اتفاقية استانة لـ"خفض التصعيد" كانت قد وجدت في إدلب نموذجها الأفضل، بوجود الضامن التركي على حدودها الشمالية. بقية مناطق خفض التصعيد، لم يكن لها من ضامن إقليمي أو دولي من طرف المعارضة، باستثناء الجنوب الذي سرعان ما تخلت عنه الولايات المتحدة. وتركيا تجد في عملية واسعة لحلفاء النظام في إدلب، تهديداً لأمنها القومي بدفع مئات آلاف اللاجئين إلى عفرين ومنطقة درع الفرات، وبالتالي إلى حدودها الجنوبية. وبالنظر إلى غالبية عظمى في إدلب ترفض "التسوية"، من فصائل الجيش الحر المُهجّرة من مختلف المناطق السورية، ومن الجهاديين الأكثر ضراوة، فلا خيار أمامهم سوى القتال طويلاً، مع انعدام الأمل بامكانية استعادة النظام للمنطقة من دون تهجير قسري جديد لمئات الآلاف إلى الشمال السوري ومنه إلى تركيا.

مئات آلاف اللاجئين الجدد في لحظة عصيبة تعصف بالاقتصاد التركي، وسط ضيق فسحة التسامح الشعبي التركي مع وجود 3 ملايين غيرهم، ستضع أردوغان وحزبه في موقف صعب، وهم من ساءت علاقاتهم بحدّة مع الغرب، مستقوين بإمكانية وجود مكان عالمي لهم على التخوم بين روسيا والغرب.

لكن ما مصلحة روسيا بإثارة حليف كتركيا، وتهديدها بأزمة جديدة خانقة؟ هنا يبدو المشهد ضبابياً، إذ صعّدت قاعدة حميميم الروسية في سوريا ضد تركيا إلى حدود قصوى، واعتبرت أن التعزيزات التركية في نقاط المراقبة فاقت المتفق عليه، ما يجعل للدولة السورية الحق باعتبارها قوات أجنبية غير شرعية موجودة على الأرض السورية، ولروسيا الحق في تغطية أي عملية عسكرية ضدها سياسياً. من جهة أخرى، لا تبدو روسيا في وارد الدفع بتركيا إلى حافة الهاوية، مع تركها الباب موارباً للتفاوض، بمنحها مهلة زمنية لفصل "الإرهابيين" عن مسلحي المعارضة.

تركيا وجدت فرصة في التهديد الروسي الإيراني بشن عملية عسكرية واسعة في إدلب، لاستعادة علاقتها مع الاوروبيين. مجرد الكلام عن موجة لجوء جديدة قد تضرب السواحل الجنوبية لأوروبا، كفيل بجعل القارة العجوز متفهمة للمخاوف التركية. فجأة، عادت أوروبا لتمد يدها إلى تركيا.

أوروبا وأميركا هددتا النظام بأن استخدام الكيماوي هذه المرة سيستوجب رداً أعنف وأوسع، وجلسة مجلس الأمن التي دعت إليها روسيا انتهت بتوبيخ جماعي لروسيا. وبعد، ماذا في إمكان الأوربيين فعله؟ بماذا سيضغطون على روسيا لوقف مقتلة في سوريا قد تسمح نظرياً لمئات الجهاديين المتمرسين، بالتسلل بين المدنيين إلى الشواطئ الأوروبية. افتراض قد يجعل القلة الليبرالية الديموقراطية الحاكمة في أوروبا، ترتعد رعباً، في ظل صعود متواصل لليمين المتطرف، والتهديد بإنهاء وحدة الاتحاد الأوروبي.

هدف بوتين النهائي لا يمكن أن يكون أقل من تفكيك صورة العالم التي استقر عليها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن أوراقه لا تبدو كافية لتحقيق هذا الهدف من خلال عملية واسعة في إدلب، على الأقل في هذه المرحلة. ويبدو أن أحد أهدافه القابلة للتحقيق من التهديد بالعملية، هو تأمين تكاليف "إعادة إعمارٍ" ما لسوريا، تعود بالنفع المباشر على رجال أعمال مقربين منه وشركاتهم. ضخ المال في سوريا سيساعد في كسر دائرة العجز المالية التي يسقط فيها الكرملين مع اشتداد العقوبات الغربية. إعادة الإعمار، لما تقدر تكاليفه بحدود 500 مليار دولار من الخراب في سوريا، بحسب تقديرات دولية، ستُكسب الروس فرصة لالتقاط الأنفاس منذ بدأ تدخلهم العسكري في سوريا، ونفقاته المتزايدة من خزينة الكرملين.

معرض دمشق الدولي تحول إلى معرض روسي مع مشاركة 37 شركة روسية متخصصة، بدءاً من تقنيات الأسلحة، وصولاً إلى الطاقة البديلة. الشركات الروسية ستجد فرصة ممتازة للعمل في سوريا إذا ما توفر التمويل اللازم لـ"إعادة الإعمار".

الروس كانوا قد بدأوا حملة عالمية للترويج لإعادة الإعمار، مع إعلانهم مشروعاً "جذاباً" بإعادة اللاجئين السوريين من دول الجوار وأوروبا بعدما استقرت الحال في سوريا وتم القضاء على الإرهاب بهمّة روسية. وعدا لبنان، لم يشتر أحد البضاعة الروسية. الحسم العسكري على الأرض هو استعادة منظومة الاستبداد السورية، وبعثها حية، بعدما حطمها السوريون قبل ثمانية أعوام. هو إعادة السوريين بالقوة إلى بيت الطاعة، ليس حباً من النظام، بل هو طُعم مشروط بإعادة اعمار المناطق المهدمة ليعود إليها اللاجئون. بمعنى آخر، إعادة العلاقات الدولية مع النظام، وتطبيعها اقتصادياً، والمساهمة في دفع تكاليف الحرب الروسية.

وليس سراً أن جهات حكومية أوروبية باتت تدرس إمكانية تقديم الدعم المالي لمشاريع ستنفذ في مناطق النظام، على ألا يستفيد منها النظام بشكل مباشر. قد تبدو المعادلة مستحيلة، وأشبه بالحبَل بلا دنس، فالفساد في سوريا ليس مرَضَاً، بل هو شكل النظام وروحه، وهو ما يتشارك فيه بالعمق مع النظام الروسي. إلا أن مراكز أبحاث تتكفل اليوم بجس النبض، ودراسة إمكانية تنفيذ هكذا مشاريع، وتقديم الغطاء التبريري لها، نزولاً عند رغبة الممول. الموضوع لا يتعلق فقط بتصريحات الساسة الغربيين التي تربط تمويل "إعادة الإعمار" بملف "الانتقال السياسي"، بل بحسابات انتخابية محلية، تتعلق بمشكلة اللاجئين، كبند رابح في أجندات المرشحين للانتخابات البرلمانية، التي يتوالى وصول ممثلي اليمين المتطرف إليها.

روسيا تراهن على خضوع الغرب لتهديداتها وبلطجتها، وتنفيذ أجندتها. وهي لتحقيق ذلك، قد تذهب بعيداً في الضغط على تركيا، واستخدامها في الوقت نفسه للضغط على الغرب. التخويف بالمزيد من اللاجئين، هو الورقة الروسية الرابحة في هذه المرحلة، لحسم الجدل الدائر حول إعادة الإعمار، وتحويله إلى بند حقيقي ضمن أي جدول أعمال دولي مقبل حول سوريا. وهو، في الوقت ذاته، سحبٌ لملف الانتقال السياسي من التداول. وإذا لم تتم الاستجابة للبلطجة الروسية، فما المشكلة في التضحية بالعلاقات مع تركيا، والتفرج على غرق اللاجئين في المتوسط، ومعهم ربما الاتحاد الأوروبي؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024