لماذا صعّد الإحتلال اقتحاماته الأخيرة لرام الله؟

أدهم مناصرة

الجمعة 2019/01/11
منذ عملية إطلاق النار التي يُتهم الأخوان صالح وعاصم البرغوثي بتنفيذها ضد جنود الإحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه بمحاذاة رام الله قبل نحو شهر، وما لحقها من عملية ثانية نفذها عاصم بعد استشهاد صالح، غيّر الإحتلال أسلوبه ونهجه المعتاد في اقتحام المدينة التي تعتبر مركز قيادة السلطة الفلسطينية، وبشكل وضع الأخيرة في موقف حرج جداً أمام شعبها. فهي بدت ضعيفة الحيلة.

بعد تفكيك ووأد القوة المسلحة للفصائل التي تشكلت فور اندلاع الإنتفاضة الثانية، نتيجة اجتياحات واسعة نفذها الجيش الإسرائيلي لمختلف مناطق السلطة الفلسطينية إبان مرحلة الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي هو الآخر لم يسلم من الحصار وتدمير مقره كما باقي مقارّ السلطة، دأبت إسرائيل على مدار 11 عاماً على تنفيذ عمليات اعتقال لفلسطينيين تصفهم ب"المطلوبين" بعد اقتحامات ليلية خاطفة في المدن والقرى الخاضعة لسيطرة السلطة، ثم سرعان ما تنسحب القوة الإسرائيلية مع بزوغ شمس الصباح.

ولكن.. ما جرى في الأسابيع الأربعة الأخيرة أظهر تحولاً في التكتيك العملياتي للجيش الإحتلال عبر تنفيذ سلسلة اقتحامات لساعات طويلة، بواسطة أعداد كبيرة من الآليات العسكرية ومدعوماً بوحدة "يمام" المختصة بالإغتيالات والمطاردات بالإضافة إلى جهاز المخابرات "الشاباك". وكل ذلك يتم في سياق عملية عسكرية تبدأ في وضح النهار وتستمر حتى ساعات الليل المتأخرة.

خلال اليومين الأخيرين، جدد الإحتلال نهجه الجديد في اقتحاماته المكثفة لمدينة رام الله، حيث بدأت في منطقة البالوع والبيرة الصناعية، لتمتد، الخميس، وحتى ساعات متأخرة لمنطقة الماسيون بالقرب من مقر مجلس الوزراء الفلسطيني. مع العلم أن الإقتحام طال قبل اسابيع مقر وكالة "وفا" الرسمية التي لا تبعد كثيراً عن مقر رئيس السلطة في شارع الإرسال، وحتى كانت هذه القوات قريبة من منزله في البالوع.

وبالرغم من اغتيال الإحتلال صالح البرغوثي منذ اربعة أسابيع، ثم اعتقال شقيقه صالح صباح الثلاثاء الماضي بعد محاصرة واقتحام بناية في بلدة ابو شخيدم بمحافظة رام الله، فإن اقتحاماته استمرت، حتى أن موقع "واللّا" الإخباري ذكر انه بالرغم من اعتقال صالح إلا أن "الملاحقة والمطاردة" التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ستستمر، بدعوى وجود المزيد من الخلايا النائمة لحركة "حماس" التي تعمل "على تويتر الأوضاع في الضفة الغربية"، على حد قول الموقع. وهذا يعني أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في رام الله ستتكرر. لكن.. ما وراء هذه العمليات، ولماذا غيرت إسرائيل الطريقة والأسلوب في الضفة؟

الواقع، أنه يُستشف من تغطية الإعلام الإسرائيلي أنه لا ينشغل كثيراً في تسليط الضوء على مدلولات التغير الحاصل على اسلوب الجيش العملياتي في الضفة عموماً ورام الله خصوصاً، لكنه يكتفي بالتركيز على تضخيم المخاوف الأمنية من تفجر الأوضاع هنا.

وبالرغم من هذا، هناك اعتراف سياسي وأمني في إسرائيل بوجود نوع من إزالة القيود السابقة في ما يخص أنشطتها العسكرية في مناطق السلطة الفلسطينية لدرجة إحراج الأخيرة وغضبها، حتى أنها أرسلت رسائل مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية وأيضاً عن طريق دول عربية وغربية، تطالبها بالكف عن هذا الشكل من الإقتحامات العلنية والتي من شأنها أن تنتهك سيادتها وتضر بالوضع القائم، وتهز مكانتها واستمراريتها، وفق معلومات "المدن".

وفي المقابل ترد إسرائيل على غضب السلطة، بالقول "إن التغيير متعلق بالحاجة الأمنية. ولمنع سيطرة حماس على الضفة". وفي ذلك، محاولة إسرائيلية لدق أسفين بين الأخوة الفلسطينيين، ويبدو أنها تنجح بذلك.

ولعلّ ثمة عاملين يقفان وراء تغيير الجيش الإسرائيلي اسلوب اقتحاماته من حيث حجم القوات والمعدات وتركزها في مناطق حساسة بالنسبة للسلطة لما تمثله من رمز لسيادتها، فضلاً عن توقيت تنفيذها وطول مدتها، وما يتصل بها من أعمال ملاحقة كل ما ترصده الكاميرات الخاصة بالمحلات التجارية والبنايات الفلسطينية أثناء الإقتحام.

لا يستبعد العامل الأول- وهو ضمني- أن يكون الشكل الإقتحامي غير المقيّد نابع من توتر العلاقة بين إسرائيل والسلطة، فوجدت الأولى تعبيرا بهذه الطريقة لإيصال الرسالة المطلوبة للقيادة الفلسطينية ولو عن طريق إحراجها أمام شعبها.

وأما العامل الثاني، فهو المُعلن؛ إذ يُبرَّر بالإحتياجات الأمنية والعسكرية للدولة العبرية، فثمة تعاظم لقلقها الأمني "الكبير" إزاء وجود جهود حقيقية من قبل "حماس" لإعادة تشكيل بنية عسكرية لها في الضفة. ولهذا تعتقد الدوائر العسكرية في تل ابيب أن الأنشطة التي ينفذها جيشها بهذا الزخم والأسلوب غير المسبوقين في العقد الأخير، تهدف في المحصّلة إلى الحيلولة دون نجاح الحركة في تحقيق هذه الغاية.

وفي السياق، ينقل صحافيون إسرائيليون عن قادة عسكريين تأكيدهم إن مسألة خلايا "حماس" في الضفة قلق حقيقي، مشيرين إلى أن "حماس ستحاول تصعيد الضفة عن طريق الخلايا والقيام بعمليات ضد أهداف إسرائيلية".

بيدَ أن الخبير العسكري اللواء المتقاعد واصف عريقات يقلل من صدقية الحديث الاسرائيلي عن خلايا نائمة ل"حماس" في الضفة، مبيناً ل"المدن" أن الترويج لذلك مبالغ فيه بهدف تبرير الاجراءات الإحتلالية حتى إنجاز انتخابات الكنيست من ناحية، إضافة إلى تأزيم الخلاف الفلسطيني الداخلي وتصعيد حالة عدم الثقة في ما بين الفلسطينيين من ناحية ثانية.

وبغض النظر عن صدقية موضوع الخلايا النائمة لحماس، فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية تبدو وكأنها متصلة بهدفين؛ الأول هو القضاء على خلايا عسكرية ل"حماس" موجودة فعلاً. والثاني؛ قد لا يعدو كونه مرتبطاً بإجراءات إسرائيلية "استباقية ووقائية" للحيلولة دون شيء محتمل في المستقبل.. فما هو هذا الشيء؟

لعل الإجابة متصلة بما لا يدع مجالاً للشك، بتساؤل دائم يُطرح في الآونة الأخيرة، خلال جلسات مغلقة يعقدها جنرالات وضباط الجيش الإسرائيلي، لبحث سبل معالجة الأوضاع الأمنية في الضفة وإمكانية مواجهة أي طارئ. ويظهر أن القلق الكبير يكمن في الفوضى التي قد تحدث في الشارع الفلسطيني بعد أي غياب مفاجئ لمحمود عباس عن السلطة.

ويعزز هذه المخاوف أيضاً، ما قاله دبلوماسي عربي في رام الله ل"المدن" حول وجود معطيات اقليمية ودولية عن إحتمال حصول فوضى في الضفة، وقد يكون المقصود في الحديث عن هذه الفوضى عن مرحلة ما بعد عباس. وتأتي هذه الخشية وسط معلومات عن سعي مستمر من أقطاب حركة "فتح" والسلطة في الضفة الغربية لتكديس وجمع أسلحة خاصة بها، استعداداً لتلك اللحظة التي يُعلن فيها عن غياب عباس. وهذا يؤدي إلى اشتباكات مسلحة وصراعات داخلية. على الرغم من أن مصدرا أمنياً فلسطينياً قال ل"المدن" إن المجتمع الدولي يعول على الأجهزة الأمنية في ضبط أي صراعات أو فوضى محتملة.

النقطة سالفة الذكر عبر عنها قائد عسكري إسرائيلي كبير خلال جلسات مغلقة، عندما تحدث عن قلق من توتر الأوضاع في مناطق السلطة، خاصة في ظل ما تواجهه سياسياً من مصاعب كبيرة، مضيفاً "أن هناك حالة من عدم الإستقرار تعيشها السلطة الآن، ما يؤدي إلى تصعيد أمني". ويعني هذا أن عُمق الخوف الإسرائيلي هو المساس بالوضع القائم وعلى نحو تخرج فيه الأمور عن السيطرة، ما سينعكس سلباً على "أمن إسرائيل".

من جهته، اعتبر مسؤول مقرب من رئيس السلطة الفلسطينية في تصريحات "المدن"، أن الإقتحامات الإسرائيلية لرام الله بمثابة محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد؛ فالإحتلال يسعى لإستدراج الفلسطينيين لإشتباك مسلح واضعاف مكانة السلطة وتقزيمها أمام مواطنيها، بغية تبرير السيطرة على مزيد من الأرض الفلسطينية لصالح الإستيطان.

وأما الغاية الإسرائلية الثانية بحسب هذا المسؤول، فهي مرتبطة بمطامع انتخابية قبل انتخابات الكنيست المرتقبة في ابريل/نيسان؛ إذ يريد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن يعطي انطباعاً للجمهور الإسرائيلي بأنه اكثر قدرة على جلب الأمن لهم.

ويكشف المصدر أن السلطة بعثت رسائل كثير لإسرائيل وعبر جهات دولية محتلفة للكف عن هذه الإقتحامات المحرجة لها؛ لكنها لم تستجب، مُبيناً أن الجهة الوحيدة التي يمكن لها الضغط على إسرائيل هي أمريكا، لكن الأخيرة تحكمها الآن إدارة متسقة تماماً مع اليمين الإسرائيلي الحاكم.

ومن جهتها، لم تؤكد ولم تنف "حماس" المزاعم الإسرائيلية حول إدارة قيادة كتائب "القسام" في غزة لعمليات في الضفة. لكن مصادر من الحركة قالت ل"المدن"، إن الأمر ليس جديداً وليس خاضعاً لقرار سياسي لدى الحركة وإنما لاعتبارات أمنية "متمثلة بتوفر الفرصة المناسبة لشن عمليات ضد الإحتلال لا أكثر".

وتفسر المصادر دوافع القلق الإسرائيلي من أي خلايا ل"حماس" في الضفة، مشددة على أن "العملية الواحدة في الضفة توازي في تأثيرها النفسي والأمني عشرين صاروخا يُطلق من غزة".

وفي غضون ذلك، يعلو صوت التقديرات الأمنية والإستراتجية الإسرائيلية التي تحذر من مغبة التركيز على الجبهة الشمالية (سوريا ولبنان) والجبهة الجنوبية (قطاع غزة) على حساب الضفة الغربية تحت عنوان أن الأخيرة "أكثر هدوءاً وأقل خطراً"؛ ذلك أنه غير مسموح أن يحدث اي تدهور أو مفاجأة أمنية هنا، لأن مخاطر ذلك على الأمن الإسرائيلي حينئذ ستكون كارثية ومضاعفة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024