الاستفتاء البريطاني.. ورطة ديموقراطية!

فادي الداهوك

الأحد 2016/06/26
لن يتأقلم البريطانيون قريباً مع الوضع الجديد، الذي وجدوا أنفسهم فيه بدءاً من اليوم التالي من إجراء استفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. 51,9 في المئة اختاروا مغادرة بلادهم للاتحاد الأوروبي، فيما نال المعسكر الداعم للبقاء 48,1 في المئة. هذه النتائج أحدثت جلبة كبيرة في العالم، وداخل بريطانيا على وجه الخصوص.


جرى استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي بعملية ديموقراطية. لكن هذه المرة لم تكن الديموقراطية خياراً سعيداً للجميع! رئيس الوزراء ديفيد كاميرون استقال. وزير الخارجية البريطانية فيليب هاموند واثق من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سعيد جداً بهذا الاستفتاء. تركيا تراه بداية تشظي الاتحاد الأوروبي. اليمين الأوروبي كان احتفاله مضاعفاً في عطلة نهاية الأسبوع، والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب احتفل في منتجع الغولف الذي افتتحه في اسكتلندا. وسيدة على "تويتر" تكتب: "هذا المساء، غادرت ابنتي عملها في بيرمنغهام، وشاهدت مجموعة من الفتيان يهتفون أمام فتاة مسلمة: اخرجي.. نحن صوتنا للخروج". 

"كوب من الشاي لا يصلح هذه الكارثة"، تقول الكاتبة المسرحية الإيرلندية كارولين بيرن. وتضيف "قلبي محطم لهذه النتيجة. وأنا أفكر جدياً بمغادرة المملكة المتحدة". تعتقد بيرن، المتزوجة من بريطاني ولديها حق التصويت، أن الأسباب التي دفعت المصوتين للخروج من الاتحاد الأوروبي هي عنصرية في المقام الأول، وتقول لـ"المدن": "تزوجت انجليزياً وطفلي سعيد هنا، ولكن الجو رهيب، وأعتقد أن الناس هنا عنصريون وصوتوا للمغادرة". وتعتبر أن استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي يشبه الانتخابات كثيراً، حيث يصوّت الناس بناء على عاطفة قوية، بدلاً من التصويت بناء على الواقع.


يعتبر اقتصاد المملكة المتحدة خامس أكبر اقتصاد عالمي، والثاني في أوروبا بعد ألمانيا، بحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي للعام 2015. وتعاني العلاقة الاقتصادية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي من عجز تجاري بلغ 68 مليار جنيه استرليني، حيث كانت صادرات بريطانيا إلى دول الاتحاد 223 مليار جنيه، أما الواردات فبلغت 291 مليار جنيه استرليني، بحسب مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني للعام 2015. ومن هذه الأرقام، تنطلق بعض دعوات داعمي الخروج بحجّة أن المملكة المتحدة تدفع للاتحاد الأوروبي أكثر مما تستفيد منه.


من وجهة نظر بيرن، فإن وسائل الإعلام اليمينية ركّزت على مخاوف الناس في ساعات بث كثيرة، ولعبت على تلك المخاوف، فحققت نتائج أفضل مما فعلت الحكومة، التي استخدمت المنطق الاقتصادي، وذلك غير فعال إلى حد كبير. "بعد يوم واحد من الانتخابات (الاستفتاء)، كانت ثاني أكثر عبارة تم البحث عنها في غوغل: ما هو الاتحاد الأوروبي؟ لم يكن لدى الناس فكرة عن المخاطر!"، تقول بيرن.

الاستفتاء الحالي ليس الورطة الديموقراطية الوحيدة التي وقع فيها البريطانيون. في أبريل/نيسان الماضي، طُرح تصويت شعبي لإطلاق اسم على سفينة أبحاث قطبية، تابعة لمجلس البحوث البيئية الطبيعية في لندن. البريطانيون طرحوا اسم "Boaty McBoatface" للاستفتاء، وتجندوا خلفه حتى نال النسبة الأعلى من الأصوات، لكن الاسم أثار سخرية كبيرة، إذ لم يكن له مصدر، أو أصل، فقامت الحكومة البريطانية بإلغاء نتيجة التصويت.

تطرح بيرن حادثة اسم السفينة كمثال على ضرورة عدم الوثوق برأي المصوتين الذين اختاروا الخروج من الاتحاد الأوروبي. وتقول "عندما صوت الجمهور البريطاني لتسمية السفينة البحرية الجديدة (Boaty McBoatface) عن طريق التصويت الشعبي، رفضت الحكومة هذه النتيجة. هل هي حقاً مع السماح لناخبين، لا يملكون المعرفة الكاملة، بتقرير مستقبلنا؟".


وفقاً لإحصائيات نشرت حول الاستفتاء، فإن نسبة المصوتين الذين تتراوح أعمارهم بين 50 إلى 64 عاماً بلغت 56 في المئة. أما نسبة المصوتين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً فقد بلغت 61 في المئة. هؤلاء اختاروا التصويت لصالح الخروج، فيما اختار 75 في المئة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 24 بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.



بسهولة، يمكن إيجاد شبان بريطانيين على مواقع التواصل الاجتماعي يتهمون كبار السن بسرقة مستقبلهم، لأنهم صوتوا لصالح خروج بريطانيا. ومعظم أولئك يقولون إن الأفضل لمستقبلهم كان البقاء ضمن التكتل الأوروبي.


"ديموقراطية نعم، ولكن عدل؟ هذا ليس شعور عدد كبير من الشباب الذين يريدون بأغلبية ساحقة البقاء" تقول سارة فيرث، لـ"المدن"، وهي صحافية ومراسلة تلفزيونية بريطانية. وتضيف "الذين سيعيشون مدة أطوال، هم مع البقاء في الاتحاد الأوروبي. مستقبل المملكة المتحدة ومستقبل الاتحاد الأوروبي هو مع جيل الشباب.. الشباب في بريطانيا يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي. إنهم يشعرون وكأن هذا الخيار قد انتزع منهم".

عقب إعلان نتائج الاستفتاء، كان لافتاً دعوات الزعماء الأوروبيين لبريطانيا من أجل الخوض في إجراءات الخروج فوراً، وعدم الانتظار إلى حين اختيار رئيس وزراء جديد خلفاً لديفيد كاميرون في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. تلك الدعوات بدت وكأنها تخفي رغبة متبادلة بين الطرفين لخروج بريطانيا. تعلّق فيرث على هذا الأمر بالقول "إن الاتحاد الأوروبي مضطر إلى اتخاذ موقف متشدد مع بريطانيا. هناك قلق حقيقي من أن خروج المملكة المتحدة سيؤدي إلى تأثير على الدومينو، وسيشجع الآخرين على المغادرة".


يرى البعض أن دعوات الانفصال تشكل تهديداً كبيراً على السلام في أوروبا، والعالم أيضاً، وأن دعوات الاتحاد الأوروبي للإسراع بخروج بريطانيا هي بمثابة الاجراءات الاستباقية لتخفيف حجم التهديد ليس أكثر، لكن في الوقت نفسه، فإنها قد تأتي على حساب احتمال نجاح المعترضين على نتيجة الاستفتاء بفرض إجراء استفتاء ثانٍ، بعدما وقّع أكثر من مليوني بريطاني التماساً إلى البرلمان حول ذلك.


تذهب فيرث مع آراء المتخوفين من تهديد السلام. وتقول "باختصار نعم، إنه تهديد للسلام. نتيجة الاستفتاء هنا في المملكة المتحدة، والحالة الدستورية لاسكتلندا، وإلى حد ما إيرلندا الشمالية.. هو على الطاولة الآن. الحسم في مسألة مغادرة الاتحاد الأوروبي ليس تهديداً للسلام والاستقرار في القارة الأوروبية فحسب، بل إنه خطر قد يؤدي إلى تفكيك المملكة المتحدة. هذا خطر كبير يتم الإقدام عليه كنتيجة لما كان بالأصل صوتاً معارضاً".

بعد فوز معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، باتت المملكة المتحدة تشبه الظّبي الذي تعثّر أثناء هروبه في غابة مليئة بالمفترسين. فالامبراطورية التي كان لها مستعمرات عديدة، ورسمت حدود دولٍ في جلسة بين فرانسوا بيكو ومارك سايكس، باتت تواجه التفكك الآن، لكن من دون إطلاق رصاص وسفك للدماء، مثل حدود سايكس-بيكو التي تنهار حالياً في الشرق الأوسط. فدعوات الانفصال تتزايد، في اسكتلندا، وايرلندا الشمالية، ولندن مؤخراً، حيث طالب الآلاف عمدة لندن عباس خان، بإجراء تصويت لاستقلال لندن عن بريطانيا حفاظاً على مستقبلها مع الاتحاد الأوروبي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024